الصحافة _ بقلم: فيصل مرجاني
في تاريخ الأمم، تظل لحظات الاختبار الكبرى كاشفة عن جوهر القادة الكبار، حيث لا تقاس الزعامة بمدى الرفاه أو القدرة على الاستمتاع بامتيازات الحكم، بل بمدى الالتزام المطلق بالواجب، والانصهار التام في خدمة الوطن والمواطنين، دون أن يكون للظروف الشخصية أو التحديات الصحية أدنى تأثير على أداء هذه المسؤولية الجسيمة. ومن بين النماذج القيادية التي تجسّد هذا المعنى بأبهى صوره، يبرز الملك محمد السادس، نصره الله، باعتباره قائدًا تتجلى في شخصه معاني التضحية والالتزام، حيث أثبت، مرة بعد أخرى، أن العرش المغربي ليس مجرد رمز للسلطة، بل هو عهد متين بين الملك وشعبه، مبني على الوفاء، والإخلاص، والتفاني المطلق في خدمة الوطن.
وقد جاءت إحياء جلالته لليلة القدر المباركة، رغم الظرف الصحي الذي يمرّ به، ليؤكد مرة أخرى أن القيادة ليست امتيازًا، وإنما تكليف يعلو فوق كل الاعتبارات الذاتية. إن هذا الحضور الملكي، بكل ما يحمله من رمزية، ليس مجرد ممارسة شكلية، بل هو رسالة بليغة إلى الداخل والخارج، مفادها أن ملك المغرب، أمير المؤمنين، يظل، في كل الظروف، وفيًّا لرسالته الدينية والسياسية، متشبثًا بثوابت الأمة، وساهرًا على حماية تقاليدها الروحية التي شكّلت، عبر التاريخ، ركنًا أساسيًا في هويتها الحضارية.
لقد رأى المغاربة بأعينهم قائدهم يؤدي شعائر هذه الليلة المباركة في وقار وخشوع، جالسًا على كرسي، لكنه شامخ بإرادته القوية، عظيم بحضوره الذي يحمل في طياته أعمق الدلالات. في ذلك المشهد، كانت كل حركة، وكل التفاتة، وكل نفحة من نفحات الإيمان، تعكس جوهر القيادة الحكيمة التي لا تعرف الانسحاب، ولا تخضع لاعتبارات الظرف أو الوهن. كان الملك، وهو يؤدي صلاته، صورة تختزل ألف معنى، ورسالة بليغة لكل من يفهم أن الحكم مسؤولية قبل أن يكون مقامًا، وأن خدمة الوطن ليست التزامًا ظرفيًا، بل هي جوهر حياة الذين اختارتهم الأقدار ليكونوا قادة.
لم يكن هذا الحضور مجرد إثبات للتفاني، بل كان امتدادًا لنهج متواصل يؤكد أن الملك محمد السادس نصره الله يرى في إمارة المؤمنين رسالة سامية، وفي حماية القيم الروحية والتقاليد الإسلامية مسؤولية لا يمكن التفريط فيها. فمنذ سنوات حكمه الأولى، وهو يحرص على أن تظل هذه المناسبات الدينية الكبرى محطات إشعاع روحي، وفضاءات تكريم للعلماء والفقهاء والحافظين لكتاب الله، في مشهد يجمع بين هيبة الدولة ووقار الدين، وبين ثبات التقاليد وتجدد الرؤية. وهذا ما يجعل من المغرب نموذجًا فريدًا في تسيير شؤونه الدينية، حيث تتكامل السلطة الروحية مع الدولة الحديثة، تحت قيادة ملك يجيد الموازنة بين الأصالة والحداثة، ويؤمن بأن حماية الدين لا تنفصل عن حماية الوطن.
لقد كان هذا المشهد الذي تابعه المغاربة لحظة من اللحظات النادرة التي يتجلى فيها العمق الإنساني للقيادة، حين يكون القائد حاضرًا بين شعبه، لا يعيقه مرض ولا يثنيه تعب، مؤكدًا أن الالتزام بالواجب هو قيمة عليا، لا تتغير بتغير الأحوال. فهذا العزم الذي أبداه جلالته ليس جديدًا على ملك عُرف بحرصه الدائم على خدمة بلده، سواء في لحظات البناء أو في أوقات الشدة، وفي كل محطة من محطات مسيرته، ظل يبرهن على أن العرش المغربي ليس مجرد مؤسسة سياسية، بل هو عماد الاستمرارية، ورمز الوحدة، ومصدر الإلهام للأمة بأسرها.
وفي هذا التمسك الراسخ بالواجب، تتجلى حقيقة القيادة التي تظل ثابتة أمام كل التحديات. لقد كان الملك محمد السادس دائمًا حاضرًا في اللحظات الحاسمة، يوجه، يقرر، ويقود، دون أن تسمح له مبادئه بالتراجع، أو أن تثنيه العوائق عن أداء أدواره. وفي هذا السياق، لم يكن إحياؤه لليلة القدر سوى حلقة أخرى من هذا الإصرار النبيل، حيث اختار أن يكون في الصفوف الأولى، كما كان دائمًا، رمزًا للالتزام والصبر، ومرآة لقيم الحكمة والرزانة.
وما من شك أن هذا الحضور البهي، بكل رمزيته الروحية والسياسية، قد زاد من تعلق الشعب المغربي بملكه، حيث رأوا فيه قائدًا لا يتخلى عن دوره مهما كانت الظروف، وحاميًا لدينهم وتقاليدهم، في تجسيد فريد لروح العرش العلوي، الذي ظل على مدى التاريخ مرتبطًا بأحوال الأمة، وحاضرًا في أدق تفاصيل حياتها الروحية والدنيوية. فلا عجب أن تظل العلاقة بين المغاربة وملكهم علاقة ولاء صادق، أساسها المحبة المتبادلة، وروحها الثقة الراسخة في قيادة اختارت أن يكون الوطن قبل كل شيء، والشعب قبل كل اعتبار.
حفظ الله مولانا أمير المؤمنين وأدام عزه وتمكينه، وأبقاه ذخرًا وسندًا لهذا الوطن العزيز، ورائدًا في دروب الحكمة والبناء. وسدد خطاه لما فيه الخير والصلاح، وأقر عينه بولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير الجليل مولاي الحسن، وشدّ أزره بصنوه صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وسائر أفراد الأسرة العلوية الشريفة.