الصحافة _ كندا
في خطاب مفعم بالحكمة والدلالات العميقة، وجّهه جلالة الملك محمد السادس إلى الأمة بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش، عادت اليد الممدودة إلى الجارة الشرقية، الجزائر، ليس بلغة الانتصار أو الاصطفاف، بل بروح أخوية سامية تستحضر ما يجمع الشعبين من أواصر الدم والدين والتاريخ، وتؤكد من جديد أن المغرب لم يكن يوما في خصومة مع الشعب الجزائري.
دعوة الملك للشعب الجزائري ليست مجرد خطاب مناسباتي، بل هي امتداد طبيعي لرؤية استراتيجية تأسست منذ تولي جلالته العرش، وتقوم على ثلاثية واضحة: حسن الجوار، الشراكة، والتضامن. إنها رسالة تعيد التذكير بأن السياسة الخارجية المغربية لا تستند إلى الانفعال أو ردود الأفعال، بل تنطلق من تعاليم أخلاقية ودينية تعتبر الإحسان إلى الجار واجبا لا يسقط بالتقادم، ومن منطلق واقعي يراهن على الاستقرار والاندماج كمدخلين حقيقيين لتنمية الشعوب المغاربية.
إن المغرب، وهو يمضي بثقة نحو ترسيخ سيادته الترابية وتوسيع إشعاعه الجيو-استراتيجي، لم يكتف بالانتصار على مستوى الميدان والشرعية، بل اختار التريث في إعلان النصر الكامل، واضعا بذلك مصلحة المنطقة فوق أي حسابات ضيقة. فالخطاب الملكي، بلغة دبلوماسية رفيعة، دعا من جديد إلى فتح صفحة جديدة، ليس فقط بين المغرب والجزائر، بل بين جميع شعوب الاتحاد المغاربي، التي حُرمت لعقود من حقها في التكامل الاقتصادي والتلاقح الحضاري.
لقد آن الأوان، ونحن على مشارف تحول عالمي جديد، أن تستفيق الضمائر السياسية في الجارة الشرقية من سباتها التاريخي، وأن تلتقط هذه الإشارة الملكية النبيلة. ذلك أن المغرب لم يطرح يوما شروطا تعجيزية للحوار، بل قدّم مبادرات صادقة، كان أبرزها مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، كحل واقعي وتوافقي لنزاع افتعلته عقائد الحرب الباردة ولا يزال يُستثمر داخليا لصرف الأنظار عن تعقيدات داخلية متزايدة.
وعليه، فإن خطاب العرش لهذا العام لا يُقرأ فقط باعتباره امتدادا لنهج ملكي ثابت، بل يجب اعتباره بمثابة “خطاب الفرصة الأخيرة” لتصحيح مسار العلاقات المغاربية، وتحريرها من هيمنة العداء العقيم. إنها دعوة تتجاوز الحدود المرسومة بالقلم السياسي، لتصل إلى أعماق وجدان مشترك لم تنجح آلـة الدعاية في مسحه أو تشويهه.
ختاما، الملك محمد السادس، في لحظة يعلو فيها صوت القادة العسكريين، يختار أن يخاطب الشعب، لا الجنرالات؛ ويخاطب التاريخ، لا الحاضر المشحون. إنها شجاعة القائد الذي يعرف أن بناء المستقبل يبدأ من الاعتراف بالمصير المشترك، وأن السلام، مهما بدا بعيد المنال، يظل الخيار الأذكى والأكثر نجاعة.