الصحافة _ وكالات
بعيد أيام قليلة فقط من الزيارة الفاشلة التي قام بها وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف إلى ألمانيا واقترف خلالها الكثير من الزلات الدبلوماسية والتواصلية استقبلت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك نظيرها المغربي ناصر بوريطة بالعديد من الإشارات الرمزية والتواصلية، أشادت من خلالها بالمبادرات الملكية في مجال تطوير الطاقات المتجددة، وأظهرت بها عمق العلاقات التاريخية بين البلدين. ولعل هذين البعدين اللذين ركز عليهما هذا اللقاء في أول يوم من زيارة الوزير بوريطة يكشفان النقيض المباشر للكارثة الدبلوماسية التي مثلتها زيارة عطاف إلى ألمانيا.
فالرجل الذي حاول خلال زيارته تقديم الجزائر كشريك مستقبلي لألمانيا في مجال الطاقات المتجددة ومشاريعها هو الذي تحدث عن “الأكسجين الأخضر” وهو يقصد الهيدروجين الأخضر الذي يعد من بين البدائل الطاقية الصاعدة بقوة في عالم اليوم. والإشارة الثانية المهمة أيضا التي برزت في اليوم الأول من زيارة بوريطة، هي تأكيد عمق العلاقات التاريخية بين المغرب وألمانيا من خلال وثائق ومراسلات تعود للقرن التاسع عشر، عبر اتفاقية تجارية وتعيين سفراء وممثلين دبلوماسيين. نحن نتحدث عن فترة لم يكن فيها لدولة الجزائر أي وجود. لكن أهم رسالة يمكن استخلاصها من هذه الإشارة التاريخية هي التأكيد على عراقة ومتانة الشراكة الأوروبية المغربية، التي لا يمكن أن تتأثر بسبب تحولات جيواستراتيجية ظرفية كالتي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية.
لقد كان وزير الخارجية الجزائري مضطرا خلال مروره الأخير بألمانيا إلى تبرير ما حدث خلال زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى روسيا، وتحدث حينها بما يدعو إلى السخرية والضحك، عن وساطة جزائرية بين روسيا وأوكرانيا، محاولا التنصل من مضامين التصريحات اللّادلوماسية التي أدلى بها رئيسه في موسكو. وبدا عطاف أمام وزيرة الخارجية الألمانية وصحافة بلادها مثل الموظف الصغير الذي يحاول أن يتبرأ أمام رئيسه من مبادرة شخصية اتخذها، لكنه ندم بعد أن ظهرت نتائجها المحرجة. لكن الوضع مختلف تماما بالنسبة إلى المغرب في ألمانيا. إذا يمكن تلخيص حضوره في عنوانين رئيسيين: الشريك الموثوق ومستقبل الطاقة والاستثمار. لأنه لا يمكن لبلد كألمانيا أن يعطي ثقته الكاملة لنظام يتحالف مع الخصم الرئيسي لأوربا ويصف رئيس روسيا بالزعيم الذي يجب الحفاظ على وفاء مطلق له.
ولعل جمهورية ألمانيا الاتحادية أدركت جيدا اليوم المكانة التي يحتلها المغرب في خارطة النظام العالمي الجديد الذي تتبلور أبعاده منذ جائحة كوفيد 19. عالم لم تعد فيه الهيمنة لقطب وحيد بل تتصاعد فيه أقطاب عديدة كما أن التحول المركزي فيه يتمثل في أهمية الشراكات الثنائية المبنية على الثقة المتبادلة والقدرة على الالتزام بتحالفات واضحة وراسخة على الرغم من التقلبات التي لا تنتهي. والمغرب بلد واضح الميول ثابت التوجه، يعطيه ذلك قدرا كبيرا من التميز على نظرائه من البلدان التي تتأرجح باستمرار بين حبال ومسارات مختلفة بل ومتناقضة أحيانا. والتزام المغرب مع أوربا خيار استراتيجي قديم يعتبر من الدعامات الأساسية لشراكاته الخارجية التي لا يمكن التراجع عن ثوابتها هكذا بجرة قلم.
لذلك على الرغم من أن زيارة ناصر بوريطة إلى ألمانيا تمثل إعلانا رسميا عن انطلاق مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين بعد سحابة الصيف التي اعترتها قبل سنوات إلا أنها تظل في العمق استمرارا للروابط التاريخية القديمة وتأكيدا للوضوح المغربي في التعامل مع حلفائه التقليديين ومن بينهم جمهورية ألمانيا الاتحادية. وعلى الرغم من أن بلادنا أعربت عن حيادها التام منذ اليوم الأول من بدء الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن موقفها هذا لا يمكن أن يكون أبدا موضوع مزايدة أو ابتزاز من أي طرف كان، لأنه يعكس الرؤية المتوازنة التي لا ترتمي في أحضان الغرب ولا تتعلق بأذيال روسيا.
المصدر: الدار