الصحافة _ بلال التليدي
مهما تعددت الدراسات التي حاولت توثيق حياة المجاهد المغربي محمد عبد الكريم الخطابي، فإن جوانب كثيرة من مسار هذا الرجل ومشروعه التحرري وخياراته السياسية، فضلا عن علاقاته المتشابكة، وموقفه من السلطة المركزية ومن دور الأحزاب السياسية، وكذا من جيش التحرير وسياقات التفاوض مع المستعمر الفرنسي لنيل الاستقلال المغربي، لا تزال تحتاج لكثير من التنقيب والبحث، ومقارنة الشهادات بعضها ببعض، والإفراج عن وثائق ومذكرات تكشف الكثير من هذه الجوانب المعتمة، وربما يحتاج الأمر لتقدير سياسي لما تبقى من عائلة المجاهد الخطابي، حتى تسمح بنشر عدد من الوثائق والمذكرات التي تمتنع الأسرة إلى الآن عن نشرها.
وإن كان بعض الباحثين مثل الباحث المصري حسن البدوي زعم أنه وصل إلى وثائق مهمة نسبها إليه ضمن ما أسماه بوثائق البدوي، فإن ما توصل إليه لا يعدو أن يكون في جوهره جزءا مما كان في ملك محمد سلام أمزيان، كاتب مذكرات عبد الكريم الخطابي وملازمه الرئيسي.
“لعنة عبد الكريم” الذي أصدره ابن محمد سلام أمزيان، ليس الكتاب الأول الذي يكتبه عن بطل الريف ورموز الحركة التحررية، فقد سبق أن كتب كتابات أخرى مهمة لا يستغني عنها الباحث في مسار هذا الرجل، فقد اشتغل محمد أمزيان على تراث الخطابي قرابة ثلاثة عقود، وألف كتابه الشهير: “محمد عبد الكريم الخطابي آراء ومواقف”، ثم لا يزال يؤكد في كل إسهاماته “الحاجة لفهم الخطابي كشخصية عابرة للزمن للوقوف على معالم مشروعه السياسي الذي سبق به الزمن”، وأن ذلك ليس شرطا في فهم الماضي فقط، ولكنه أمر ضروري لصناعة التقدم في المستقبل.
“لعنة عبد الكريم” هو إسهام آخر يندرج ضمن تأكيد الحاجة لاستيعاب تاريخ الرجل، وفهم مقاصده ومغازيه، ومحاولة تحويل هذا التاريخ إلى طاقة متجددة يستفيد منها الجميع، ويستخلص منه العبر والدروس، ويتخذ زادا مهما في مسيرة تطور الأمة وتقدمها.
قسم المؤلف كتابه إلى أربعة أقسام، تناول في الأول مقالات حرص المؤلف أن يوطئ بها كتابه، تتناول لعنة معركة أنوال التاريخية، والمنفى الجسدي والمعنوي لعبد الكريم الخطابي (رفاته لا يزال مدفونا في القاهرة) وما يثيره من سؤال أخلاقي على الفاعلين السياسيين والمثقفين بالدرجة الأولى، إذ بأي حق يلقى بهذا الرمز الإنساني في غيابات التجاهل والنسيان؟ كما تضمن هذا المحور مقالتين مهمتين، تتضمنان موقف الخطابي من القضية الفلسطينية، ورأيه الواضح في الاستعمار والامبريالية.
أما القسم الثاني من الكتاب، فقد أدرج فيه المؤلف أربع دراسات نوعية، تتعلق كلها بجوانب من تاريخ الريف والثورة الريفية، مثل موقف الحزب الاشتراكي الإسباني من الحرب الريفية، واستخدام إسبانيا للغازات السامة، ومسألة جيش التحرير ومدى إسهامات الخطابي فيه من خلال مراحل التأسيس والإعداد، بالإضافة إلى دراسة تاريخية جد مهمة تتعلق بمذكرات الخطابي وطبيعتها وموثوقيتها والجديد فيها.
أما في المحور الثالث، فقد جمع فيه الكاتب قراءاته الذاتية لإصدارات مختارة تخص الخطابي والحرب التحريرية ضد الإسبان، في حين ختم الكتاب بالقسم الرابع الذي تضمن مقالات انطباعية حاول فيها الكاتب رد الاعتبار لتاريخ المقاومة الريفية.
المخزن يهنئ فرنسا
ضمن المؤلف في القسم الأول من كتابه وثيقتين مهمتين تتعلقان بموقف السلطات المركزية المغربية من هزيمة محمد عبد الكريم الخطابي بعد تحالف الاستعمارين الفرنسي والإسباني، تضمنت الوثيقة الأولى برقية تهنئة بعثها المقيم العام الفرنسي الجنرال ستيغ إلى السلطان مولاي يوسف بمناسبة انتهاء العمليات العسكرية في الريف، فيما تضمنت الثانية نص الكلمة التي ألقاها السلطان المغربي خلال مأدبة العشاء، بعد أن دعي لزيارة فرنسا بالمناسبة، وتضمنت تعبيرات تثمن انتصار القوات الفرنسية على ثورة محمد عبد الكريم الخطابي، وتصفها بالتمرد الذي هدد الدولة، واعتبر الكاتب أن هذا اللقاء الذي جمع السلطة المركزية المغربية بممثل سلطات الحماية الفرنسية بكونه لقاء تبادل فيه المنتصرون نخب الانتصار فيما بينهم.
مدرسة الخطابي ومدرسة بورقيبة
يذكر المؤلف في سياق سجالي حول الفرق بين أسلوب بورقيبة ومنهج الخطابي، تأثر بورقيبة ببطل ثورة الريف، وإعجابه به عندما تخرج من فرنسا عام 1927، وإشارته إليه في الكثير من أحاديثه، كما ذكر المؤلف إعجاب محمد عبد الكريم الخطابي بصراحة بورقيبة، وساق شهادة للزعيم التونسي في حق بطل ثورة الريف، قال له فيها: “أنت رجل تعرف متى وكيف تستخدم السلاح، بينما أنا محام أدافع بالكلمة والقانون والحوار”. وذكر المؤلف بمواقف عبد الكريم الخطابي في مراحل التفاوض بين فرنسا ودول شمال أفريقيا، وأنه لولا تلكم المواقف، لما سعت فرنسا إلى التعجيل بمنح الاستقلال الذاتي لكل من تونس والمغرب للتفرغ للجزائر التي كانت تعتبرها مقاطعة فرنسية.
الخطابي.. المشروع التحرري الاستشرافي
يتوقف المؤلف طويلا على قولة بطل ثورة الريف التي قال فيها “جئت قبل أواني”، محاولا تفسيرها بكون المشروع الذي جاء به الخطابي للإجابة على المعضلات التي كان المغرب يتخبط فيها، لم يكن ليقبله المتحكمون آنذاك في مصير المغرب من ممثلي القوى الاستعمارية، ولا أن يستوعبه قومه الذين ألفوا نمطا سياسيا موغلا في المحلية، وقائما على التوافق القبلي والسلم الاجتماعي الهش، واعتبر الباحث أن هذه القولة كانت تحمل نظرة استشرافية نحو المستقبل، وأن الخطابي كان بصدد بناء مشروع يتجاوز به جيله، وأنه كان يخاطب به ذكاء الأجيال القادمة، ويدفعها إلى استيعاب مغازي مشروعه واستخلاص العبر منه.
كما يستعيد المؤلف مأساة المنفى الجسدي والمعنوي لمحمد عبد الكريم الخطابي، ويسائل النخب السياسية والمثقفين عن الرسالة الثاوية وراء هذا التغافل والنسيان والجحود تجاه رمز من الرموز الوطنية التاريخية للأمة، وينتقد بشدة محاولة بعض الأحزاب الاتجار برفات بطل الريف، ويعتبر أن المطالبة بإعادة جثته إلى أرضه مطالبة مشروعة، لكن ظروف عودته لا ينبغي أن تخضع لحسابات سياسية ضيقة، وأنه كما كان يمثل رجل الإجماع، فإن الأنسب لرمزيته، أن يكون مطلب إعادة جثته مطلبا جماعيا لا تستفرد به فئة دون أخرى لحسابات سياسية جد ضيقة، وأن الأنسب أن يدفن في مقبرة الشهداء بأجدير بالحسيمة، حيث دفن أجداده وأبناء عمومته، وأن محاولات ترويج أخبار عن نوايا بنقل رفاته إلى الرباط أو أي مكان آخر غير أجدير، فهي في نظر المؤلف بمنزلة نفي ثالث له.
هل ترك الأمير محمد عبد الكريم الخطابي مذكرات؟
من أنفس ما تضمنه الكتاب دراسة أوردها الباحث في القسم الثاني من كتابه، حاول فيها الحفر في موضوع مذكرات الأمير، إذ طرح سؤالا عن وجودها من عدمه وطبيعتها وموثوقيتها، وما تضمنته من أقسام، وهل ورد فيها أي جديد غير معروف أو غير منشور عن مسار الرجل ومواقفه؟
في رحلته البحثية عن مذكرات الأمير، ساير المؤلف رأي المؤرخ الشهير جرمان عياش في أطروحته “أصول حرب الريف” وأقر بوجود مذكرات له، تم إطلاق اسم “مذكرات لاريونيون” عليها، أو ما كانت تعرف بمذكرات “سانيي”، التي ترجمها المرحوم التهامي الزموري من العربية إلى الفرنسية. وقد ذكر المؤلف سياق وصول المخطوطة إليه، وكيف طلب المناضل اليساري محمد البارودي لقاءه وسلمه المخطوطة هدية إليه، وتتضمن 34 صفحة مقسمة على موضوعات يبدو أن الخطابي دونها على عجل، أو أفتاها على الضابط الفرنسي سانييس الذي كان يسميه الخطابي في مذكراته بـ”المسيو ساني”.
يكشف المؤلف عن مضمون هذه المذكرات، إذ تضمت في البداية الحديث عن نسب الخطابي وتاريخ العائلة الخطابية، ثم قدم فيها الخطابي إحاطة بتاريخ بداية الزحف الإسباني بعد اتفاقه مع “بوحمارة” وكيف اتفق الريفيون على تنظيم أنفسهم تحت زعامة الشريف سيدي محمد أمزيان، وذكر جانبا من عمله مع الإسبان، وأنه كان في البدء متفائلا بالمشروع الإنساني الإسباني، إلا أن ذلك الأمل صار يتناقص، وأن والده قاسى من الريفيين بسبب تعامله مع الإسبان قبل أن ينقلب عليهم بسبب سياساتهم التوسعية، وكان انقلاب والده على الإسبان سببا في إلقاء القبض على ابنه محمد في مليلية، ثم يمضي الخطابي في هذه المذكرات في سرد أحداث حرب الريف بشكل كرونولوجي، ويلجأ أحيانا لذكر التفاصيل بلغة كثيفة مشفرة، ويستعرض سياق معركة أنوال، ثم قرار فرنسا بنفيه، ويقدم قراءته لهذا القرار ومغازيه، بما في ذلك نفيه إلى جزيرة لا ريونيون.
من جانب آخر، يسترسل المؤلف في حفرياته عن مذكرات الخطابي، فيكشف عن مخطوط ثان يتضمن مذكرات أخرى للخطابي، في مخطوط يسمى بمخطوط أمزيان، ويشير الكاتب إلى أنه معروف في دائرة جد ضيقة تتعلق بأسرة الخطابي وأسرة أمزيان، ويؤكد أن مخطوط أمزيان يتضمن في الحقيقة مخطوطين، كلاهما منسوب إلى والده محمد سلام أمزيان، الأول بخط يده، والثاني مرقون برقنه على الآلة الكاتبة.
وأشار الكاتب إلى أن هذه المذكرات يرمز إليها بـ”مجموعة وثائق أمزيان”، وهي التي اعتمد عليها الباحث المصري حسن البدوي في دراسته، مدعيا أنه أول من استخدمها ونسبها إلى نفسه بغير وجه حق كما يقول المؤلف.
وبخصوص مضمون هذه المذكرات، يشير الكاتب إلى أنها تتوقف عند حادثة نزول الخطابي في القاهرة، وتوجهه لبناية “مكتب المغرب العربي”، أما بقية المذكرات فهي كتب مستقلة تضم تصريحات الخطابي ومراسلاته وما كتب عنه، ويشير المؤلف إلى أن مخطوط أمزيان يتضمن ثلاثة أجزاء: الجزء الأول (مأساة وطني)، تناول فيه المجال الريفي جغرافيا وبشريا ومناخيا، ثم ينتقل لعلاقة الريف بالإسبان، وأطماع هؤلاء فيه والمعاهدات الدولية وعلاقة المخزن المركزي بالريف، وينتهي بوفاة والده سنة 1920.
أما الجزء الثاني (الشعب يواجه الاستعمار)، فيتضمن قسمين، يبدأ بالزحف الإسباني على الريف، والشروع بقصف بيت الأسرة الخطابية من جزيرة النكور، وسير المعارك بعد ذلك. أما القسم الثاني من هذا الجزء، فيستعرض أوضاع الجبهة الغربية التي كانت على عاتق محمد الخطابي وكذا المواجهات مع الفرنسيين لاحقا، كما تضمن هذا القسم اعترافات الخطابي بأخطاء قيادة ثورة الريف.
أما الجزء الثالث من هذه المذكرات (المنفى)، فتضمن هو الآخر قسمين تناول فيهما الاستسلام والحياة في المنفى، واهتمامه بتربية أبنائه وأعماله في التجارة في الجزيرة والأشخاص الذين كانوا يزورونه، ثم الحرب العالمية الثانية، وموقفه من الجنرال بيتان وديغول ومحاولات ألمانيا تهريبه من المنفى لاستخدامه ضد فرنسا في شمال أفريقيا.
الحزب الاشتراكي الإسباني: من استنكار الاستعمار إلى البكاء على هيبة الجيش الإسباني
في الدراسة الثانية تابع المؤلف بالأسلوب الحفري نفسه موقف الحزب الاشتراكي الإسباني من الثورة الريفية التحررية ضد الاستعمار، فرصد مواقفه الأولى التي انعطفت للمواقف الاشتراكية المبدئية، التي كانت تناصر الحركات التحررية ضد الامبريالية، وتنتقد الحكومة الإسبانية التي تغامر ليس من أجل مصلحة إسبانيا، ولكن من أجل خدمة مطامع البرجوازية المتنفذة التي تبحث عن استغلال مقدرات الشعوب المستعمرة، ثم تابع مواقف الحزب خلال حرب مليلية، وكيف كان ينتقد الحكومة الإسبانية، ويحرك حركة احتجاجية واسعة من أجل التوقف عن استعمار المغرب، وينتقد بشدة الحجج والذرائع التي كانت تستعملها إسبانيا للتدخل في المغرب، لكن الموقف بدأ يتغير بشكل كبير، ويبتعد عن المواقف المبدئية مع حرب الريف، بعد أن بدأ الجيش الإسباني يتكبد خسائر كبيرة، مست هيبة المؤسسة العسكرية الإسبانية، إذ تابع المؤلف المقالات التي كانت تصدر بجريدة “السوسيواليستا” الإسبانية التي كانت تعبر عن وجهة نظر الحزب الاشتراكي الإسباني، وكيف تم الانعطاف في الموقف من مناهضة النزعة العسكرية إلى المطالبة بالانسحاب من الريف، ليس لأن الأمر ينطلق من موقف مبدئي يناهض النزعة الامبريالية وينتصر لحق الشعوب في مقاومة الاستعمار، ولكن لأن الأمر يتعلق بإيقاف نزيف الأرواح التي مست الجانب الإسباني، إذ لأول مرة يبرز في خطاب هذا الحزب كلمة التفاوض مع الحركة الريفية من أجل السلام ويتم الحديث أيضا عن الانتداب، تلك الكلمة التي تعتبر مرادفة للحماية التي كانت معروفة في المناطق الجنوبية للمغرب وكانت ترمز للاستعمار.
الغازات السامة والمسؤولية التاريخية لإسبانيا
يتناول المؤلف في دراسته الثالثة، قضية شائكة تتعلق بمسؤولية إسبانيا في استعمال الغازات السامة لإبادة الثورة الريفية، وإقرار قياداتها العسكرية بذلك، فبعد أن يذكر سياق ذلك، وما تعلق بتداعيات حرب أنوال التي مست في العمق هيبة المؤسسة العسكرية الإسبانية، يستعرض حيثيات القرار السياسي الذي اتخذته إسبانيا باستعمال الأسلحة المحرمة دوليا بإبادة ثورة الريف، ويستعرض وثائق تثبت مسؤولية إسبانيا التاريخية في استعمال الغازات السامة بمختلف أنواعها ضد ثورة الريف، كما يستعرض بعض المبادرات السياسية التي قام عليها حزب اليسار الجمهوري الكاتلاني للبرلمان الإسباني، لإقرار مشروع قرار بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية من طرف الجيش ألإسباني ضد الريفيين، وكيف تم إجهاض هذه المبادرة منذ سنة 2006، دون أن يكون لإسبانيا الشجاعة الكاملة للاعتراف التاريخي بجريمتها.
مساهمة عبد الكريم الخطابي في جيش التحرير
يستعرض المؤلف في الدراسة الرابعة دور محمد عبد الكريم الخطابي في التهييء والإعداد لجيش التحرير، ويستهجن في نفس سجالي حاد أدوار النخب السياسية التي كان ينسب إليها كل شيء بهذا الخصوص، في الوقت الذي يبخس فيه دور بطل الريف، ويعتبر أن هذه النخب كانت مسؤولة عن اغتيال عباس المسعدي، وأن ذلك تم بعد أن زار الريف ووجده قد بنى قواعد حركة مسلحة، ووجد في الريف منفذا لإبراز طموحاته العسكرية التي لم تتبلور في الدار البيضاء وغيرها، واستشهد المؤلف بعدد من المذكرات التي صدرت مؤخرا عن جيش التحرير، تشير إلى الإسهام الكبير الذي قدمه الخطابي في بناء جيش التحرير، كما نقل فقرات طويلة من كتاب الأستاذ محمد لخواجة :”جيش التحرير المغربي 1951-1956″ يرد بها كثيرا من المزاعم التي بخست دور الخطابي في بناء جيش التحرير، مذكرا بموقفه الواضح الذي كان يرى فيه ضرورة ابتعاد الأحزاب السياسية عن الإشراف على هذا الجيش، وضرورة أن يبقى مستقلا حتى يؤدي وظيفته كاملة، ولا يتوقف حتى يكتمل المشروع التحريري الذي على عاتقه.