بقلم: سعيد جعفر*
في السيادة ليس هناك حظ أو صدفة. هناك فقط أوراق وخرائط توضع تحت اليد ويتم التصرف وفق حساباتها.
ما قام به المغرب من تحد لإسبانيا يجد روحه في ما حدث في 16 أكتوبر 1975، وقبله في واحدة من الانتفاضات الحاسمة ضد الاحتلال الإسباني: أقصد “انتفاضة الزملة” (هذه مناسبة للبحث في جذور التحدي المغربي الصحراوي لإسبانيا المستعمرة).
في 16 أكتوبر 1975، تلقى الراحل الحسن الثاني الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول حقيقة ارتباط القبائل الصحراوية بالنظام المغربي، ليتصرف، بحدسٍ عالٍ، وبسرعة، لتنظيم مسيرة سلمية إلى الصحراء الجزء الشمالي من الصحراء (الساقية الحمراء وأوسرد)، وفي 31 أكتوبر أعطى الأوامر للجيش للتقدم في التراب المغربي المسترجع.
الحسن الثاني سيستثمر مرض فرانكو وضعف الحكومة الإسبانية واختلاف الرؤى بين وزير الدفاع الإسباني وجنرالات الجيش الإسباني حول ضرورة بقاء الجيش من عدمه في إقليم الصحراء، ليقنع الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه بالضغط المشترك على إسبانيا لتوقع اتفاق مدريد، الذي ستُعلِم بموجبه إسبانيا الأممَ المتحدة بنقل إدارة الصحراء إلى المغرب وموريتانيا كمقدمة لإنهاء استعمارها لإقليم الصحراء.
وبسقوط ولد داداه نتيجة انقلاب عسكري ودخول موريتانيا في دوامة فراغ سياسي داخلي، سيوقّع الحسن الثاني مع موريتانيا اتفاق تسلم الجزء الجنوبي من إقليم الصحراء ممثلا في وادي الذهب، لتكتمل سيطرته على الصحراء.
المغرب اليوم يستثمر معطيات قريبة مما حدث في 16 أكتوبر 1975:
1- استثمار قرار اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على إقليم الصحراء بنفس استثمار المغرب آنذاك بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
2- تخلي الملك خوان كارلوس عن الحكم وتولي الملك فليبي الذي ما زال يكتشف الحكم في وضع شبيه بمرض الجنرال فرانكو وضعف الدولة الإسبانية.
3- ضعف الحكومة الاشتراكية وتنافر مكوناتها في وضع شبيه بضعف الحكومة الإسبانية آنذاك بعد اغتيال رئيس حكومة فرانكو.
4- مرض رئيس كيان البوليساريو والرئيس الجزائري في وضع شبيه بضعف بومدين والوالي مصطفى السيد.
ماذا يريد المغرب اليوم؟
ظاهريا المغرب يطالب بكف إسبانيا عن تعاملها مع الأعداء وبموقف واضح والخروج من منطقة الراحة حسب وزير الخارجية ناصر بوريطة.
في العمق، المغرب يريد الضغط على إسبانيا للخروج من تفسيرها الاستعماري لاتفاق مدريد المتعلق بإدارة إقليم الصحراء، إلى معطيات الواقع السياسي والإقليمي الجديد بالاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء.
الاعتراف الأمريكي وترسيم الحدود البحرية الجنوبية للمملكة، تجعل المغرب اليوم في وضع جيد لمطالبة إسبانيا الاستعمارية بـ:
1- الاعتراف بسيادة المغرب على إقليم الصحراء وليس إدارة إقليم الصحراء.
2- عدم قبول المغرب استمرار شروط اتفاق مدريد وهي:
– بقاء قاعدتين عسكريتين في مياه جزر الكناري.
– ثلث منتوج فوسفاط بوكراع.
– الصيد في المياه الإقليمية للجنوب المغربي دون قيد أو شرط.
المغرب يستعمل كل وسائله المتاحة:
– تقنين زراعة القنب الهندي وحرمان إسبانيا من أرباح خيالية من العشبة المهربة.
– خنق التجارة وبالتالي الاقتصاد الإسباني عبر غلق مداخل سبتة ومليلية وعبر ميناءي طنجة المتوسط والناظور بني انصار.
– ميناءا الداخلة وامهيريز سيخنقان تجارة جزر الكناري والجزر الجعفرية.
– عمق وامتداد بحيرة ماريشكا يجعل الامتداد الجيو-استراتيجي لإسبانيا عبر جزيرة النكور مراقبا عن قرب.
– التحرر من الاتفاق الأمني سيغرق سبتة السليبة بالمهاجرين غير القانونيين، وإسبانيا ستكون مدعوة لتحمل التكلفة القانونية والسياسية والمالية لملف القاصرين حتى بلوغهم سن الرشد.
في المحصلة، ما يحدث بين المغرب وإسبانيا ليس مجرد بوليميك سياسي بين دولتين يجمعهما تاريخ معين، ما يحدث هو محاولة في مستوى معين من دولة تريد استكمال وحدتها الترابية واستكمال سيادتها، في مواجهة طمع وجشع دولة استعمارية تريد الحفاظ على وضع الفاكتو المترتب عن تأويلها لاتفاق مدريد وإدامة مصالحها الموروثة عن مرحلة سابقة لها شروطها وموازين قواها التي تختلف جذريا عن المرحلة السياسية الحالية.
ما قاله بوريطة في هذا الموضوع بأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس صحيح جدا، وإسبانيا تعرف الأمر وتقاومه عبر الضغط بالاتحاد الأوروبي، وعبر خلق مستوى معين من التوتر حتى لا يفرض المغرب الأمر الواقع كما حدث في 16 أكتوبر 1975 وما تلاه من استسلام لنظام فرانكو وقبول تسليم إدارة إقليم الصحراء للمغرب وموريتانيا قبل أن ينجح الحسن الثاني في استثمار معطيات الداخل الموريتاني لاستكمال ضم الجزء الجنوبي من الإقليم الصحراوي ممثلا في وادي الذهب.
يمكن القول اليوم إن الزحف الذي تلا تحرر المغرب من الاتفاق الأمني، والذي سمته وزيرة الخارجية بالغزو، وهي تسمية لها مدلول خاص في العُرف الإسباني وفي المخيال الشعبي والقومي القشتالي والأندلسي ارتباطا بغزو المسلمين للأندلس، هو شبيه بما حدث في 1975 من دعوة لتحرير إقليم الصحراء وما تلاه من إعمار لاحق.
في ما يخص زحف القاصرين والمراهقين والشباب سنناقشه في وقته بالوقوف عند دلالاته في القانون الدولي العام وعند مسؤولية الحكومة المغربية في التنمية ومحاربة البطالة، ولكن بعد نهاية هذه المعركة الوجودية والسيادية ضد المستعمر الإسباني وخلفه أوروبا الإمبريالية…
*رئيس مركز التحولات المجتمعية والقيم في المغرب وحوض المتوسط