السياسة الصناعية في المغرب.. تحليل نقدي للتحديات والاستراتيجيات في ظل تفاقم العجز التجاري

18 أبريل 2025
السياسة الصناعية في المغرب.. تحليل نقدي للتحديات والاستراتيجيات في ظل تفاقم العجز التجاري

الصحافة _ بقلم: ادريس الفينة*

تُعد السياسة الصناعية إحدى الركائز الجوهرية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة في المغرب، إلا أن البيانات الاقتصادية الأخيرة تبرز استمرار اختلالات هيكلية تُعيق بلوغ هذا الهدف. من بين أبرز هذه التحديات، يتصدر العجز التجاري، الذي بلغ حوالي 285.5 مليار درهم في عام 2023، بانخفاض طفيف مقارنة بـ308.8 مليار درهم في 2022، وفقًا لأحدث المعطيات المتوفرة. ويُعبر هذا المؤشر بوضوح عن استمرار الاعتماد الكبير على المنتجات المستوردة، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى فعالية الاستراتيجيات الصناعية المتعاقبة، ومدى توافقها مع التحديات الاقتصادية الوطنية والدولية.

1. العجز التجاري: تحليل للأسباب البنيوية

تكشف المؤشرات الاقتصادية أن العجز التجاري في المغرب ليس ظاهرة ظرفية، بل يعكس اختلالًا بنيويًا في هيكل الاقتصاد الوطني. ففي عام 2022، سجلت الواردات نموًا كبيرًا بنسبة 39.6%، لتبلغ حوالي 737.7 مليار درهم، في حين لم تتجاوز نسبة نمو الصادرات 29.4% لتصل إلى 426.1 مليار درهم فقط. هذا الفرق يُظهر ضعف القدرة التنافسية للمنتج الوطني، سواء من حيث الجودة أو الكلفة، ما يدفع المستهلك المغربي إلى تفضيل السلع الأجنبية.

ويُضاف إلى ذلك ارتفاع تكاليف الإنتاج المحلي بسبب هشاشة سلاسل التوريد، ومحدودية التكامل التكنولوجي، وضعف الاستثمار في البحث والتطوير، إلى جانب غياب دعم مؤسساتي كافٍ للصناعات الاستراتيجية. فعلى الرغم من إطلاق برنامج “صُنع في المغرب” سنة 2020، بهدف تقليص الواردات بـ45 مليار درهم وزيادة الصادرات بـ50 مليار درهم، فإن النتائج المحققة ما زالت محدودة مقارنة بالطموحات المعلنة.

رغم بعض النجاحات القطاعية، كما في مجالي النسيج والطيران، لا يزال البرنامج يواجه قيودًا هيكلية، خصوصًا في ما يتعلق بندرة التكنولوجيا محليًا، وضعف المنظومة الوطنية للابتكار الصناعي. وقد أظهرت دراسات قمتُ بها في هذا المجال أن استبدال الواردات ليس قرارًا سياسيًا فحسب، بل عملية مركبة تتطلب تحكمًا دقيقًا في سلاسل القيمة، وتطويرًا لبنية تحتية صناعية شاملة ومندمجة.

2. استراتيجيات استبدال الواردات: تقييم نقدي للأثر

اعتمد المغرب منذ سنوات على مجموعة من الاستراتيجيات الصناعية التي تعاقبت دون تحقيق قطيعة نوعية مع محدودية النماذج السابقة. بدأت هذه السياسات مع برنامج “إقلاع” سنة 2009، الذي ركز على قطاعات مثل صناعة السيارات والطيران، ثم تطورت إلى برامج مثل “صُنع في المغرب”.

غير أن الأرقام المتوفرة لا تُظهر تحقق الأهداف المعلنة. فتصريح الوزير السابق، مولاي حفيظ العلمي، بأن نسبة استبدال الواردات بلغت 100%، يُعد مبالغًا فيه ويفتقر إلى السند الواقعي، خصوصًا في ظل استمرار ارتفاع الواردات في قطاعات أساسية كالمحروقات والحبوب والمستلزمات الطبية.

الوزير اللاحق، رياض مزور، أطلق دراسة لتطوير استراتيجية وطنية جديدة، مُعلِنًا عن برنامج متكامل للصناعة الاستبدالية. إلا أن هذه المبادرات، رغم أهميتها النظرية، ما زالت تفتقر إلى آليات تقييم ومساءلة شفافة، ما يضعف الثقة في جدواها الفعلية. وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن النمو الاقتصادي المغربي يعتمد في الأساس على تراكم رأس المال الثابت، مع مساهمة ضعيفة للإنتاجية والعمل. ما يعني أن الاستثمارات الصناعية لم تنعكس بعد على مستوى القيمة المضافة أو التنافسية الإنتاجية.

3. السياسات الحكومية وتحديات الحوكمة الصناعية

تلعب الحوكمة الاقتصادية دورًا محوريًا في إنجاح السياسات الصناعية، لكن الملاحَظ في التجربة المغربية هو استمرار نهج شخصاني في تدبير القطاع، حيث لا يتم تقييم الاستراتيجيات السابقة بموضوعية، بل يُعاد إنتاج نفس الرؤية من طرف مسؤولين يتقاسمون الخلفية ذاتها. هذا النمط يضعف القدرة المؤسساتية على تصحيح المسار أو الابتكار في السياسات.

وعلى الرغم من الإعلان عن مشاريع صناعية واعدة، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقات المتجددة، إلا أن غياب آليات للمتابعة والتقييم العلمي يحد من فعاليتها. كما أن الخطاب الإعلامي الرسمي كثيرًا ما يتجاوز واقع الإنجاز الفعلي.

فمثلًا، في قطاع السيارات، رغم تسجيل صادرات مهمة، لا تزال الصناعة الوطنية تعتمد بدرجة كبيرة على استيراد المكونات الأساسية، مثل المحركات والإلكترونيات، ما يُقلل من الأثر المحلي للأنشطة الصناعية ويُبرز ضعف معدل الاندماج المحلي.

إن هذا الوضع يُظهر بوضوح الحاجة إلى سياسات صناعية تدعم سلاسل الإنتاج المندمجة، من المواد الأولية إلى المنتجات النهائية، وتُوجه نحو خلق قيمة مضافة وطنية حقيقية.

4. السياحة وتحويلات المغاربة بالخارج: رافعة مؤقتة لا تعوّض غياب صناعة وطنية

في ظل العجز التجاري المتزايد، يُعوّل المغرب بشكل كبير على مداخيل السياحة وتحويلات الجالية المغربية بالخارج لتمويل العجز في الحساب الجاري. ففي عام 2024، سجل قطاع الخدمات فائضًا بلغ 138.2 مليار درهم، بفضل عائدات سياحية قُدرت بحوالي 8 مليارات دولار سنويًا. كما سجلت تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج رقمًا قياسيًا بـ144.2 مليار درهم.

رغم الأهمية الكبيرة لهذين الرافدين، إلا أنهما عرضة لتقلبات خارجية مثل الأزمات الجيوسياسية أو التغيرات في سلوك المستهلكين الدوليين. والأسوأ من ذلك أن الاعتماد المفرط عليهما يُضعف الحافز لتطوير قاعدة إنتاجية محلية صلبة، ويُرسّخ الطابع الريعي للاقتصاد المغربي.

ويُحذر البنك الدولي في تقاريره الأخيرة من أن استمرار الاعتماد على هذه المصادر الخارجية يُعرض المغرب لمخاطر تمويلية وهيكلية متزايدة، خاصة في ظل بلوغ العجز في الحساب الجاري 18.5 مليار درهم سنة 2024، وهو ما قد يُجبر السلطات النقدية مستقبلاً على اتخاذ قرارات صعبة لتفادي تدهور الوضع الاقتصادي الكلي.

إن السياسة الصناعية في المغرب تُعبّر عن طموح وطني مشروع، لكنها تُواجه اليوم تحديات حقيقية، سواء على المستوى البنيوي أو في تدبير الحكامة. إن تقليص العجز التجاري وتعزيز الإنتاج المحلي يتطلب إصلاحًا شاملاً يتجاوز الشعارات الإعلامية، ويرتكز على رؤية استراتيجية متكاملة، وآليات تقييم صارمة، واستثمار موجّه في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.

وفي الوقت الذي تُسهم فيه تحويلات الجالية والسياحة في تمويل العجز مؤقتًا، إلا أن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على إعادة بناء قاعدة صناعية وطنية تنافسية، قائمة على التكنولوجيا، والتكامل المحلي، والسيادة الإنتاجية.

*ادريس الفينة: باحث

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق