الصحافة _ كندا
الدكتور هشام العلوي
دفعت الحرب على غزة إلى تهميش موضوع اتفاقيات التطبيع التي تم التوصل إليها في عام 2020 بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب. علاوة على بعده الجيوسياسي، فقد تم تجاهل أحد جوانب هذا التحالف: على الرغم من اختلافاتهم العقائدية، فقد استغله الأصوليون في الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى لتشكيل جبهة مشتركة ضد الليبرالية الأخلاقية والقيم العلمانية، حتى لو كان القمع الإسرائيلي في القدس الشرقية وانتهاكات الأماكن المقدسة يهددان أيضًا هذا الجانب من الاتفاقية. (تنويه: كُتب هذا النص قبل الأحداث الأخيرة في المنطقة).
المفروضة عليه بشأن الصحراء الغربية، وسيحظى بالاعتراف بسيادة الرباط على هذا الإقليم.
أمّا إسرائيل، فقد كان هدفها تعزيز مكانتها الدولية من خلال الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع دول عربية تتشارك معها – وهذا الأمر ليس بالصدفة – هدف احتواء إيران التي تمتلك قوة عسكرية نووية.
تهميش القضية الفلسطينية
استفاد جميع هؤلاء الفاعلين من تهميش القضية الفلسطينية، التي عُزلت عن باقي أزمات الشرق الأوسط خلال ثورات “الربيع العربي”. وهو ما جعل من اتفاقيات أبراهام مثالًا حيّا على الواقعية السياسية الصلفة. ومع ذلك، فقد تبنّت دول عربية أخرى مواقف مختلفة على المستوى الجيوسياسي. فقد راهنت الجزائر على فشل هذه الاتفاقيات، بينما فضّلت قطر البقاء خارج الصراعات الإقليمية من خلال سعيها للعب دور وسيط، كما فعلت في أفغانستان.
لكن، وعلى الرغم من أن السلسلة الجديدة من اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية العربية قد شكّلت في البداية ممارسة للانتهازية الجيوسياسية، إلا أنها تحولت بعد ذلك إلى شيء مختلف تمامًا، طالما أنّ المنطق الاستراتيجي الذي أسهم في ولادة هذه الاتفاقيات لم يعد على نفس الشاكلة. وبينما تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، لم تعد دول المنطقة بحاجة إلى موافقة أمريكية للنقاش حول السلام وابتكار سياستها الخارجية.
لا تكفي المخاوف المشتركة من اعتداء إيراني لتفسير التطبيع الإسرائيلي العربي، فالتقارب الأخير بين الرياض وطهران لم يقلّل من حركيّة التطبيع. حتى وإن كانت المملكة العربية السعودية أكثر حذرًا بسبب موقعها الرمزي كحامية للحرمين الشريفين مكة والمدينة المنورة، إلا أنها تُجري مفاوضات من خلال إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من خلال تحقيق سلام منفصل مع إسرائيل. من جهة أخرى، تدفع الواقعية السياسية بعض الدول العربية إلى تكوين تحالفات استراتيجية مع إسرائيل لتحسين موقعهم الاقتصادي أو السياسي.
لكن بعيداً عن العوامل الجيوسياسية، يشكّل التطرّف الدينيّ عاملاً للمساهمة في فهم اتفاقيات أبراهام. إذ تجمع هذه الأخيرة تحالفًا غير متوقع من الدول التي تدّعي التحدث باسم عقيدتها من خلال صياغة محددة لمُثُل أصولية. حتى وإن مثّل – في البداية – استخدام اسم النبي إبراهيم في إشارة إلى هذه الاتفاقيات، تأكيداً على التسامح الجامع بين الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية، إلا أنه يشير اليوم إلى تحالف متطرف ضد الديمقراطية الليبرالية.
نظريات صامويل هنتنغتون
أصبحت الأطراف المتشددة قوة مهيمنة في السياقين السياسيين لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، كما يبقى تأثيرها قويًّا فيما يتعلق بالدول العربية. في إسرائيل، تتحكم الجماعات اليمينية اليهودية المتشددة بشكل كبير في الحكومة، وتملي عليها القرارات في شأن القضية الفلسطينية. أمّا في الولايات المتحدة، يمارس الجناح الإنجيلي للحزب الجمهوري تأثيرًا منقطع النظير على الحركة المحافظة ويتداخل أيضًا مع التيار الشعبوي لحركة “لنُعد لأمريكا مجدها” (Make American Great Again) التي قادها ترامب. بالنسبة إلى الدول العربية الموقّعة على الاتفاقيات، فهي في وضع أكثر تعقيدًا. حيث يفرض القادة الاستبداديون سيطرة الدولة الكاملة على الإسلام، في حين كان من الممكن للفاعلين الدينيين المتجذرين في المجتمع، بدءًا من علماء الدين التقليديين إلى الجماعات المتشددة مثل الإسلاميين والسلفيين، أن يتعايشوا معاً حتى الآن في ظلّ إسلام رسمي. يدّعي هؤلاء القادة دعمهم لإسلام معتدل، ولكنهم يؤسسون في الواقع إلى أصوليّة الدولة، رافضين العلمانية بمفهومها الفلسفي، ومحتكرين العقيدة ومنظّمين ممارستها في الحياة الاجتماعية.
تسيطر كل من هذه القوى الثلاث – الإسلامية والمسيحية واليهودية – على مجتمعها، وسرعان ما تغيرت وجهات نظرها حول بعضها البعض. في الآونة الأخيرة وحتى وقت قريب جداً، كانت تعتبر نفسها متنافسة. استهدفت معاداة السامية المسيحية والإسلامية الشتات اليهودي، بينما اعتبر الصهاينة معظم المسيحيين والمسلمين تهديدًا لحلمهم بوجود دولة يهودية. في هذا السياق، كانت مصطلحات مثل “الحملة الصليبية” و “الجهاد” تترجم تصوّر الحركات المتشدّدة لفكرة “صراع الحضارات”.
في هذا التصور حول العالم الذي وضعه عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنغتون، يُعتبر الدين أساسًا للثقافة، حتى أولئك الذين يتخذون توجها علمانيا كانوا يُصنّفون بموجب ديانة ذويهم. كما يتم تقسيم العالم إلى مجتمعات تُعتبر متجانسة (مسيحية أو يهودية أو مسلمة)، حيث يصبح أسقف فرنسي أقرب إلى ماسوني فرنسي منه إلى إمام مهاجر من المغرب العربيّ.
مع ذلك، تم استبدال هذا التصور للمنافسة بين الأديان من قبل المتشددين بفكرة التحالف لتعزيز القيم المشتركة. فقد حلّت حروب الثقافات مكان نموذج هنتنغتون القديم لصراع الحضارات. والآن، لا تتردد كل فرقة دينية في الانضمام إلى أبناء العم الابراهيميين وإن كانو بعيدين، ضد إخوتها وأخواتها الأقرب لكونهم علمانيّين – سواء كانوا يهودًا أو مسيحيين أو مسلمين – يختلفون معهم في عقيدتهم وينتقدون سياستهم. في الولايات المتحدة، يعتبر المسيحيون الإنجيليون الليبرالية العلمانية تهديدًا مضاهيا لتهديد أيّ ديانة منافسة أخرى إن لم يكن أكبر. ويسعى المسيحيون المتشددون إلى بناء تحالف عالمي للمحافظين الدينيين من جميع الأديان لمحاربة العدو الملحد، فيتحالفون مع الشعبويين الأوروبيين، ويستندون إلى القومية البيضاء، ولا يثقون في أي سياسة يسارية، ويعتبرون فلاديمير بوتين “صليبيًّا” مسيحيًّا.
فاعلون متشدّدون في السياسة الدينية
في الوقت ذاته، أربكت الجماعات اليهودية الأورثودوكسية المتشددة السياسة الإسرائيلية. وصلت التوترات بين هذه الحركات إلى درجة اعتبار هؤلاء بأن العلمانيّين ليسوا يهوداً. أكّد المتشدّدون ذلك بتراجعهم عن الدفاع عن الشتات اليهودي ضد المعادين للسامية، لأن جزءًا كبيرًا من هذا الشتات قد صار علمانيا أو رفض آراءهم السياسية والعقائدية. وبالتالي، لا يجد الجناح اليهودي المتشدد أي حرج في التحالف مع الشعبويين الغربيين المعادين للسامية الذين يدعمون بدورهم القوميين المسيحيين البيض. على سبيل المثال، وصف بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بأنه “صديق حقيقي لإسرائيل”، على الرغم من هجماته المعادية للسامية ضد الملياردير الأمريكي جورج سوروس. وفي الآونة الأخيرة، في مايو/أيار 2023، قام وفد من حزب الديمقراطيين السويديين اليميني المتطرف، الذي يدعو في برنامجه إلى حظر الختان، بجولة في إسرائيل.