الصحافة _ كندا
في وقت يتزايد فيه عطش الرأي العام إلى المعلومة الدقيقة والشفافة، يصرّ رئيس الحكومة عزيز أخنوش على مخاطبة المغاربة بلغة فضفاضة، بعيدة عن لغة الأرقام الصلبة التي وحدها تكشف حقيقة الحصيلة الحكومية. ظهوره الأخير في برنامج خاص على القناتين الأولى والثانية كان يُفترض أن يكون لحظة مكاشفة سياسية، لكنّه بدا تمرينًا بارداً في التسويق الإعلامي أكثر مما كان عرضاً لحصيلة موضوعية بعد أربع سنوات من التدبير.
المفارقة أنّ المعارضة قدّمت خطاباً نقدياً أقوى، مدعّماً بإحصاءات ومعطيات ملموسة، خصوصاً في ملفات الحماية الاجتماعية بعد إلغاء “راميد” و”تيسير”، أو في مشروع مدارس الريادة الذي عمّق الفوارق المجالية بدل أن يضيقها. بينما أخنوش اختار خطاباً إنشائياً فارغاً، خالياً من الأرقام الدقيقة التي تُظهر حجم ما تحقق أو ما تعثر.
ما زاد الطين بلة أن تضارب الأرقام ظهر جلياً في قضايا أساسية، مثل قطاع المواشي، حيث بدا رئيس الحكومة عاجزاً حتى عن تقديم معطيات متماسكة، في وقت يعرف فيه الجميع أن مصالح لوبيات قوية داخل الأغلبية تستفيد من تضخيم أو تمييع الأرقام. هنا يظهر سؤال الثقة: كيف يمكن للمغاربة أن يصدقوا حصيلة حكومية لا يملك أصحابها حتى الحد الأدنى من الدقة التقنية؟
اللقاء الإعلامي أخطأ التوقيت أيضاً، إذ لم يسبقه أي نقاش مؤسساتي داخل البرلمان، ما جعل الخطاب يبدو وكأنه محاولة استباقية للتأثير على الرأي العام، بدل أن يكون نقاشاً سياسياً مسؤولاً أمام ممثلي الأمة. هذا الفراغ في القنوات المؤسساتية هو ما سمح للمعارضة أن تحتكر المبادرة وتحرج الحكومة في ملفات حساسة: من تضارب المصالح في محطة تحلية المياه، إلى فضائح السجل الاجتماعي، وصولاً إلى صفقات المحروقات.
أخنوش بدا في النهاية أسير صورة رجل الأعمال الذي يتحدث من برج عالٍ، بعيداً عن نبض الشارع وهموم المواطنين، يكرر ببرودة أن “الكل سعيد بما أنجزته الحكومة”، وكأن المغاربة يعيشون في عالم آخر. هذه الجملة وحدها تكشف هشاشة المقاربة التواصلية وغياب أي استراتيجية حقيقية للتفاعل مع الانتقادات المتصاعدة.
إن ضعف الحصيلة الحكومية ليس مجرد مسألة تقنية، بل يعكس طبيعة النخب التي تتحكم في القرار السياسي اليوم: نخب المال والأعمال التي لم تتعود على لغة المكاشفة والمحاسبة، بل على لغة التحكم والتسويق. لذلك، فالمشكلة ليست فقط في غياب الأرقام، بل في غياب ثقافة سياسية تجعل من هذه الأرقام أداة للشفافية لا أداة للتضليل.
الحقيقة التي لم يستطع رئيس الحكومة قولها واضحة: المغاربة لم يعودوا يصدقون الشعارات العامة، بل يريدون بيانات ملموسة، وجداول زمنية دقيقة، وإرادة سياسية صريحة تضع المصلحة العامة فوق الحسابات الضيقة. أما لغة “كل شيء على ما يرام” فلم تعد تجدي، لأنها لغة متقادمة في زمن تُختبر فيه الشرعية السياسية بالقدرة على الإقناع لا بالقدرة على الإنفاق.