الصحافة – وكالات
سارة فوير و رضا عيادي
في 30 تموز/يوليو، سيحتفل ملك المغرب محمد السادس، البالغ من العمر خمسة وخمسين عاماً، بمرور عشرين عاماً على توليه العرش، حيث ورث في عام 1999 مملكة من ثمانية وعشرين مليون مواطن كانوا يواجهون تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة، بما فيها الافتقار إلى الضروريات الأساسية في المناطق الريفية، وارتفاع معدلات الفقر، وسوق عمل و”ناتج محلي إجمالي” اعتمدا اعتماداً كبيراً على الزراعة، ونسبة بطالة بلغت حوالي 14٪ على الصعيد الوطني وما يقرب من ضعف تلك النسبة بين أوساط الشباب. وعلاوة على ذلك، اتسم عهد والده، الذي دام أربعة عقود، بالقمع السياسي الشديد وانتهاكات حقوق الإنسان، وإن تُوِّج ذلك بانفتاح مُخطط للنظام السياسي والمجتمع المدني قبل الخلافة بفترة وجيزة.
وفي السنوات العشرين التي مرت منذ ذلك الوقت، قطع المغرب أشواطاً كبيرة في العديد من مجالات التنمية الاقتصادية والبشرية. وفي الوقت نفسه، تبنّى محمد السادس إلى حد كبير ميل والده للانفتاح السياسي المحدود، متجنباً التحرر الأعمق الذي كان كثيرون يأملون في أنه سيبدأ العمل على استحداثه. وفي العقود المقبلة، من المرجح أن تعتمد قدرة المغرب على البقاء استثناءً مستقراً للقاعدة الإقليمية المضطربة، على قابلية نجاح هذه المساومة الضمنية.
المدارس، الألواح الشمسية، والصوفية
في رصيد محمد السادس عدد من الإنجازات الاقتصادية الجديرة بالملاحظة. فخلال ثمانية عشر عاماً من فترة حكمه ارتفع “الناتج المحلي الإجمالي” للمغرب من 42 مليار دولار في عام 1999 إلى 110 مليار دولار بحلول عام 2017 (وفقاً لسعر الدولار الأمريكي في عام 2017). أمّا معدل النمو الاقتصادي، الذي لا يزال رهينة التأثيرات المناخية المتغيرة على الزراعة، فبلغ متوسطه 3-4٪ سنوياً، مع توقّع “صندوق النقد الدولي” مؤخراً حصول تحسن في الآفاق الاقتصادية على المدى المتوسط. وتحتل البلاد الآن المرتبة الثانية في المنطقة بعد الإمارات العربية المتحدة من حيث مؤشر سهولة ممارسة الأعمال الخاص بـ “البنك الدولي”. وفي خطوة تشير إلى الابتعاد عن نهج والده، استثمر محمد السادس منذ البداية في شمال المغرب المهمل منذ وقت طويل، وكان من نتائج ذلك ميناء طنجة المتوسط – أكبر ميناء على البحر الأبيض المتوسط وفي كل أفريقيا.
وظهرت نقاط إيجابية إضافية فيما يتعلق بالالتحاق بالمدارس، والنهوض بالمرأة والحد من الفقر. ففي عام 1999، كان ثلث الأطفال ممن بلغوا سن التعليم الابتدائي غير ملتحقين بالمدارس. وبعد سلسلة من الإصلاحات، أصبح معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية يبلغ الآن 97٪، مع تحقيق الفتيات الصغيرات أكبر نسبة من المكاسب. وفي عام 2004، أصلح النظام الملكي مدوّنة الأسرة، حيث منح النساء حقوق الطلاق وحضانة الأطفال والوصاية الذاتية مع رفع الحد الأدنى لسن الزواج إلى 18 عاماً. كما تراجع الفقر بشكل ملموس منذ عام 1999، عندما كان حوالي 16٪ من السكان و30٪ من سكان الريف يعيشون عند خط الفقر أو تحته، بينما وصلت هذه الأرقام اليوم إلى 4٪ و 19٪ على التوالي. وبصرف النظر عن ارتفاع معدلات الفقر في المجتمعات الريفية، يحصل اليوم ما يقرب من 100٪ من هذه المجتمعات على الكهرباء، مقارنة بنسبة 18٪ فقط في عام 1999.
وفي أعقاب المساعي التي بُذلت لتوفير الطاقة الكهربائية بصورة شاملة، شرع المغرب في مشروع كبير لتطوير الطاقة المتجددة، وذلك لتقليل اعتماده على واردات النفط والغاز من جهة ولتخفيف الآثار الضارة للتغيرات المناخية من جهة أخرى. وكانت إحدى النتائج تطوير محطة “نور” للطاقة الشمسية، التي هي أكبر مجمع من نوعه في العالم، والذي يمكن أن يجعل المغرب مُصدِّراً للطاقة إلى أوروبا وإفريقيا في نهاية المطاف.
وتتخذ المملكة أيضاً منحى غير نموذجي على الصعيد الإقليمي فيما يتعلق بمقاربتها لمواجهة التطرف الإسلامي. فبعد انقضاء أربع سنوات على اعتلاء محمد السادس العرش، هزّ المغرب أسوأ هجوم إرهابي في تاريخه، حيث قام 12 انتحارياً بتفجير أنفسهم في مواقع سياحية ويهودية مختلفة في العاصمة، مما أسفر عن مقتل ثلاثة وثلاثين مدنياً. ودفع الهجوم العاهل المغربي – الذي كونه “أميراً للمؤمنين” يعتبر أيضاً المرجع الديني الرئيسي في البلاد – إلى إطلاق عمليات إصلاحية شاملة كإخضاع المساجد والمدارس الإسلامية للسيطرة المشددة للدولة، وتجريد مناهج التعليم الديني من المحتوى المتطرف، وتعزيز الصوفية وتيارات الإسلام الأخرى التي يُعتقد أنها تروّج للاعتدال، وتأسيس أكاديمية لتدريب الأئمة للطلاب المنحدرين من شمال وغرب إفريقيا، وعلى نحو متزايد، من أوروبا.
بيد، إن هذه الإصلاحات لم تُحصِّن المملكة من التطرف الداخلي، كما يتبين من المغاربة الذين انضموا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» وغيره من الجماعات الجهادية في سوريا بين عامي 2012 و 2016، والذين بلغ عددهم نحو 2000 فرد. ومع ذلك، فمن خلال التدابير الأمنية المشددة والإصلاحات الدينية، من الواضح أن المغرب نجح في احتواء تهديد التطرف بشكل أفضل من معظم أقرانه في المنطقة.
تدرُّج أم جمود
إذا كان الهجوم في الدار البيضاء قد أعطى دفعاً للتصدي للتطرف الديني، فقد أدى أيضاً إلى تباطؤ الزخم نحو التحرر السياسي الوارد ضمناً في تعهد محمد السادس الذي التزم بأن يحكم بشكل مختلف عن والده. فبعد أن عملت سلسلة من المبادرات المبكرة على توزيع ما يقرب من 185 مليون دولار على أكثر من 16 ألف ضحية لما يسمى بـ “سنوات الجمر والرصاص” التي عرفتها فترة حكم الملك الحسن الثاني، فقد توقع الكثيرون توسيع الحريات المدنية تحت حكم ابنه. ولكن تفجيرات عام 2003، حثّت على سن قانون كاسح لمكافحة الإرهاب أدانته جماعات حقوق الإنسان بسبب تضمّنه تعريفاً واسعاً للغاية للإرهاب ولأنه يُمكّن الحكومة من عرقلة النشاط السياسي السلمي ظاهرياً. واليوم، لا تزال حرية الصحافة وغيرها من الحريات المدنية مقيّدة، كما أن ترتيب منظمة “فريدوم هاوس” (دار الحرية) للمغرب فيما يخص “الحرية الجزئية” لم يتزحزح منذ عشرين عاماً.
وتفاقم الإحباط من وتيرة الإصلاحات في عام 2011، على خلفية انتفاضات “الربيع العربي” التي نشبت في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ورداً على الاحتجاجات التي عمّت جميع أنحاء البلاد وطالبت بمزيد من الحقوق السياسية ووضع حد للفساد والبطالة المرتفعة، نظّم محمد السادس استفتاءً دستورياً ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة. وتمثّلت النتائج الرئيسية لهذه المبادرات في التمكين الجزئي للسلطة التشريعية، والاعتراف الرسمي بهويات الأقليات العرقية، وإنشاء برلمان جديد يهيمن عليه «حزب العدالة والتنمية». وكان هذا الحزب الإسلامي المعتدل، الذي يستمد جذوره من جماعة «الإخوان المسلمين»، نشطاً في المشهد السياسي المغربي منذ عقود، وقد تخلى منذ فترة طويلة عن معارضته الرسمية للنظام الملكي. (وتدعو «جماعة العدل والإحسان» – المنظمة الإسلامية الرئيسية الأخرى في البلاد – إلى القضاء على الملكية، وبالتالي تم حظرها).
وفي الوقت نفسه، خصص دستور عام 2011 صلاحيات واسعة للملك، ومنذ ذلك الحين أنشأ حلفاؤه أحزاباً جديدة لمواجهة «حزب العدالة والتنمية». أما الديناميكية الناتجة فقد كرّرت إلى حد كبير معالم نظام سياسي مألوف لدى المغاربة منذ زمن طويل، ومفاده: أنّ النظام الملكي الذي لا يرغب في التنازل عن قدر من سلطاته يحكم إلى جانب (أو بالأحرى فوق) الأحزاب السياسية غير القادرة على تنفيذ الأهداف التشريعية المشتركة. كما تم إطلاق برنامج اللامركزية لمنح المزيد من حرية التصرف والمسؤولية للحكومات الإقليمية، ولكن العملية تعطّلت إلى حد كبير. ومن ناحية أخرى، لا يزال الفساد متفشياً. وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب، التي كانت عامل رئيسي وراء احتجاجات عام 2011، 22٪ على الصعيد الوطني و43٪ في المناطق الحضرية، وهو رقم مثير للقلق بالنظر إلى أن ما يقرب من نصف المواطنين المغاربة البالغ عددهم 34 مليون نسمة هم دون سن الرابعة والعشرين. ولا يزال التفاوت الاقتصادي على المستوى الذي كان عليه قبل عام 1999 أو أسوأ، كما يتضح من القياسات السنوية لمعامل “جيني” في المغرب، كما أنّ [إمكانية] الوصول إلى الرعاية الصحية اللائقة والتعليم تُعد أمراً محدوداً.
وقد أزكت هذه الظروف نيران سلسلة من الحركات الاحتجاجية في السنوات التي أعقبت “ربيع” المغرب. ففي الفترة 2016-2017، اندلعت مظاهرات حاشدة في منطقة “الريف” التي عادة ما تكون مضطربة بعد مقتل بائع سمك سحقاً بواسطة شاحنة نفايات بينما كان يسعى لاستعادة صيده المُصادر. وأُلقي القبض على أكثر من 150 متظاهراً أثناء حملة القمع التي تلت ذلك وطالت حركة “الحراك الشعبي” التي يقضي قادتها حالياً أحكاماً بالسجن لمدة عشرين عاماً. وفي عام 2018، استَهدَفت مقاطعة غير مسبوقة ثلاث شركات رائدة في المملكة احتجاجاً على الروابط الطويلة الأمد بين رجال الأعمال والنخب السياسية. والجدير بالذكر أنّ اثنين من الشركات يديرهما أفراد لهم صلات معروفة بالقصر.
ووفقاً لآخر استطلاع رأي أجراه “البارومتر العربي”، يريد 49٪ من المغاربة حدوث تغييرات داخلية سريعة (وهي أعلى نسبة من أي دولة عربية أُجرى فيها استطلاع للرأي)، ويرغب 70٪ من البالغين تحت سن الثلاثين في الهجرة من البلاد. إن المعالجة بشكل ملائم لمشاعر الإحباط الكامنة وراء مثل هذه الأرقام ستشكل تحدياً رئيسياً لمحمد السادس مع بداية العقد الثالث لولايته.
اعتبارات لواشنطن
للولايات المتحدة مصلحة واضحة في مساعدة المغرب على الحفاظ على استقراره النسبي، لا سيّما بالنظر إلى الغموض الذي يجتاح الجزائر المجاورة. ويعتمد هذا الاستقرار إلى حد كبير على قدرة الرباط على مواصلة تنفيذ الإصلاحات بطريقة تقلل من دوافع الاضطراب الاجتماعي مع تجنب الفوضى والانحدار السلطوي الذي شوهد في أجزاء أخرى من المنطقة. كما يمكن لواشنطن تعزيز فرص نجاح المملكة من خلال إشراكها بفعالية أكبر في مجال التنمية.
لقد سبق للمساعدات الأمريكية المستهدفة أن حققت نتائج باهرة في عهد محمد السادس. على سبيل المثال، أفادت بعض التقارير أن منحة من “مؤسسة التصدي لتحديات الألفية” أمدها خمس سنوات بقيمة 697 مليون دولار خلال الفترة بين عامي 2008 و2013 قد سهّلت جهود المغرب للحد من الفقر. كما أن اتفاقية أخرى أبرمتها “مؤسسة التصدي لتحديات الألفية”، بلغت قيمتها 450 مليون دولار، قد دخلت حيّز التنفيذ في عام 2017، بهدف توفير فرص العمل ودعم إنتاجية الأراضي. بيد، سعت إدارة ترامب مراراً وتكراراً إلى تقليص حزمة المساعدات السنوية، وربما يعود ذلك إلى أن الهدوء النسبي الذي يسود المغرب يغني عن الحاجة إلى المساعدة. غير أنه نظراً للمشاكل الاقتصادية المستمرة التي تعاني منها المملكة والمؤشرات المتزايدة للإحباط الاجتماعي، ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تعيد النظر في هذا الموقف.
ومن المجالات التي تستدعي مزيداً من الاهتمام – والتي قد تلقى تجاوباً كبيراً من الرباط بشكل خاص – نذكر الاستثمار في القطاع الخاص في المغرب. وعلى وجه التحديد، ينبغي أن تنظر إدارة ترامب في إنشاء صندوق للمشاريع المغربية-الأمريكية، بناءً على النموذج الناجح للغاية الذي وضعته الإدارات الأمريكية السابقة مع مختلف الحلفاء في أوروبا الشرقية. ومن شأن هذا الصندوق أن يحفز نمو القطاع الخاص الذي تَمُسّ الحاجة إليه في المملكة ويمكن أن يوفّر فرصاً لإقامة مشاريع تجارية مشتركة مع شركات أمريكية.
وبالطبع، سيتعثّر أي تعاطي مع المغرب طالما يكون وجود واشنطن الدبلوماسي محدوداً. لذلك، فإن إرسال سفير إلى الرباط لا يزال يشكل أولوية عاجلة.
سارة فوير زميلة مساعدة في معهد واشنطن، الذي عمل فيه رضا عيادي مساعداً باحثاً في الفترة 2018-2019