ثمة مؤشرات كثيرة تؤكد بأن موعد المصالحة الثانية للدولة المغربية مع الريف قد اقترب، وأن الدولة بصدد التمهيد لإعلان كبير يطوي ملف حراك الحسيمة، والاعتقالات الواسعة التي اندلعت على خلفية التعاطي معه.
أول هذه المؤشرات قرار العفو الملكي عن 107 من معتقلي جرادة والريف، ذلك القرار الذي يؤشر على أن الدولة تقوم بعملية تنهيج للمصالحة، وتنزيلها في سياق تدريجي، لا يبطل تحقيق هدف تثبيت هيبة الدولة. فثمة توجس كبير يطبع تعامل الجولة مع الملف، فبقدر ما ترغب في طيه بقدر ما تسعى أن لا تكون هذه الخطوة ضد تثبيت هيبتها وسلطتها على المنطقة.
صحيح أن القرار لم يشمل كل معتقلي الريف، وشمل بعض الذين اقترب موعد الإفراج عنهم، وصحيح أيضاً أنه ميز من حيث الفئة المستهدفة به، بين معتقلي جرادة الذين تم إطلاقهم بالكامل، وبين معتقلي الريف الذين تم الإفراج عن بعضهم بالانتقاء، لكن ذلك يدخل ضمن إستراتيجية الفصل بين المسارات، ومحاولة عزل حراك الريف عن أي حراك آخر، وتثبيت فكرة فك الارتباط بين حراك جرادة وحراك الريف، حتى ينتفي في مزاج الرأي العام الترابط بين الفعل الاحتجاجي وأزمة السلطة والثروة في البلاد، ويتثبت عنده في المقابل مفهوم هامشية حراك الريف، واستقلاليته بميزاته الخاصة.
ثاني هذه المؤشرات هو توالي تصريحات حكومية وازنة تؤكد اقتراب العفو الملكي الشامل، وأن الأمر يتطلب من نشطاء الريف ومختلف الهيئات السياسية والمدنية بالمنطقة توفير شروطه، وعدم المساهمة في إحداث أجواء التوتر والتشنج التي تبرر الانتصار للمقاربة الأمنية والدفع بقوة بهيبة الدولة بدل منطق المصالحة. في البدء، جاء تصريح من وزير الدولة المكلف بملف حقوق الإنسان، ثم ورد مؤخراً تصريح دقيق من رئيس الحكومة يبشر بقرب هذا العفو والإيذان بطي هذا الملف.
ثالث هذه المؤشرات هو إصرار الدولة على تنفيذ رؤيتها في التنمية في منطقة الحسيمة، واستكمال كافة المشاريع التي تمت برمجتها في المشروع الملكي «الحسيمة منارة المتوسط»، وتنفيذ مشاريع أخرى حكومية تم تنفيذها استجابة للضغط الملح للحراك. نضيف هذا المؤشر؛ لأن الدولة اعتادت في عهد الملك الحسن الثاني أن تعامل المناطق التي تندلع بها الاحتجاجات بمنطق الإقصاء والحرمان، إذ كانت تعتبر التنمية ثمناً للطاعة، والإقصاء ضريبة للاحتجاج، في حين، وعلى العكس من ذلك، تصرفت دولة محمد السادس بمنطق مختلف فضاعفت التنمية لإخماد الاحتجاج.
منطق الدولة لم يتراجع كثيراً، فهي تتحكم في الملف بشكل كامل، فتختار توقيتها لإجراء العفو، وتختار الفئة التي تريد العفو عنها، وتبقي على القادة رهن الاعتقال، وتصرف الموقف بنحو متدرج حسب ردود الفعل من جهة النشطاء في الريف
رابع هذه المؤشرات اللغة التي صدر بها تقرير المندوب الوزاري لدى رئيس الحكومة المكلف بملف حقوق الإنسان، الأستاذ شوقي بنيوب، والتي يستشف منها طلب الدولة على المصالحة، وسعيها بشكل حثيث لاستكمال شروطها، لكن مع التحكم في توقيتها، وطريقتها، دون أن يكون من رسائلها إضعاف هيبة الدولة ولا تقوية أي جهة عليها.
لحد الآن، ثمة هدوء يخيم على منطقة الحسيمة، كما ولو أن هناك إشارات سياسية من قادة الحراك بضرورة اختبار نية الدولة في المصالحة، وعدم تعكير الأجواء في سبيل تحقيق هذا الهدف، لكن مع الإبقاء على موقف الترقب المتحفظ، فأقصى ما يصدر من مواقف في هذا الاتجاه تصريحات تهم الوضع الحقوقي والإنساني للمعتقلين، مع تخفيف اللجوء للخارج للضغط الحقوقي على المغرب بملف معتقلي الريف، أي ثمة إرادة توافقية ضمنية، لا يجرؤ أي طرف على التعبير عنها، مخافة فقدان قدرته على إدارة الملف: فالدولة تخاف أن تبدد هيبتها، والحراك يخشى أن يتوسل الدولة ويتكفف حرية معتقليه.
لكن في الجوهر، ثمة ديناميات مضمرة تؤشر على أن كل طرف يعرف بالضبط ما يقوم به لتيسير شروط المصالحة، دون التورط في أي فعل يفسد مبررات موقفه، فتقرير المندوب الوزاري المكلف بحقوق الإنسان، وإن كان ينتصر لمنطق الدولة أكثر، فإنه في المقابل يطرح توصيات تؤشر على شدة الطلب من طرف الدولة على المصالحة. فاستدعاء رجال الفكر والرأي لبذل آرائهم في قضايا المصالحة وتضميد جراح الذاكرة، يبرز محدودية السياسات التي استعملت لتحقيق المصالحة الأولى، وأن حراك الريف ربما أتى على كل مؤشرات الثقة التي بذلت لطي صفحة الماضي منذ بداية العهد الجديد.
منطق الدولة لم يتراجع كثيراً، فهي تتحكم في الملف بشكل كامل، فتختار توقيتها لإجراء العفو، وتختار الفئة التي تريد العفو عنها، وتبقي على القادة رهن الاعتقال، وتصرف الموقف بنحو متدرج حسب ردود الفعل من جهة النشطاء في الريف ودرجة لجوئهم للإعلام والخارج للضغط عليها، وفي المقابل، يتصرف نشطاء الحراك بحذر شديد، فيبتعدون من مناطق التماس مع الدولة، ويركزون على الأبعاد الإنسانية والحقوقية في التعاطي مع معتقلي الحراك، ويتعاملون بشكل بارد مع أي مبادرة صدرت، سواء من قبل الحكومة أو الهيئات السياسية أو الحقوقية، لأنهم يعتقدون أن مشكلتهم مع الدولة، وألا أحد يمكن أن ينوب عنها في حل المشكل وتسويته.
التركيب الذي يمكن أن نخلص إليه بهذا الخصوص، أن الطلب على المصالحة ليس حاجة للدولة فقط، بل حاجة حيوية للنشطاء أيضاً، وإن كانت حاجة الدولة إليه أكبر من حاجة الحراك إليه، بحكم الظروف التي يمر منها المغرب، والسياق الدولي والإقليمي المحكوم بتوسع بؤر التوتر، ومسارعة القوى الدولية والإقليمية للتدخل في السياقات الداخلية، والضرب على نزعات الانقسام والتجزئة وتقوية التوجهات الجهوية ودعم التوترات اللغوية والثقافية واستدعاء جراح الماضي لتفتيت تماسك الدولة والمجتمع، فالدولة تستشرف المخاطر، وتتطلع إلى رص جبهتها الداخلية، وتحتاج أكثر من ذلك إلى اختبار مصالحة جديدة، لا تكتفي فقط بتسوية المشكل اللغوي والثقافي (الأمازيغية لغة وثقافة وتعليماً)، وإنما ترغب في تسوية تاريخية، تطوي بها ملف الذاكرة المشحون بالتوتر بين السلطة والريف، وهو ما يستدعي منها استثمار الزمن بشكل دقيق، لا سيما زمن الهدوء وقلة التوتر، لتنزيل المصالحة الثانية ببعدها السياسي والحقوقي والتنموي والتاريخي.
كاتب وباحث مغربي