الصحافة _ كندا
رغم كل الشعارات الحكومية حول ترشيد النفقات ومحاربة الريع، يكشف الواقع استمرار واحدة من أكثر مظاهر الامتيازات غير المشروعة استفحالاً في الإدارات والمؤسسات العمومية، وهي قضية السكنيات الوظيفية المحتلة التي تحولت من حق إداري مؤقت إلى امتياز دائم محمي بالنفوذ والعلاقات.
فوفق معطيات متداولة، يتضح أن ريع السكن الوظيفي لم يعد حكراً على الوزارات والمؤسسات العمومية التقليدية، بل امتد إلى شركات التدبير المفوض، التي تُدير باسم الجماعات الترابية مرافق حيوية وتمتلك أصولاً عقارية ضخمة تابعة للدولة. وعلى رأس هذه الشركات تبرز شركة “ريضال”، المفوض لها تدبير خدمات الماء والكهرباء والتطهير في الرباط وسلا وتمارة، والتي أصبحت اليوم نموذجاً فاضحاً في سوء تدبير السكنيات الوظيفية.
المعطيات تؤكد أن عدداً من الفيلات والشقق الراقية المملوكة للشركة لا تزال محتلة من طرف مسؤولين سابقين أو متقاعدين، وبعضهم انتقل منذ سنوات إلى قطاعات أخرى أو إلى مدن بعيدة، ومع ذلك ما زالوا يستفيدون من هذه السكنيات وكأنها ملك خاص. بل تحوّلت بعضها إلى ضيعات خاصة صغيرة داخل أحياء راقية مثل أكدال والرياض والنهضة والسويسي، وتُقدّر قيمتها السوقية بمليارات السنتيمات، دون أن تجرؤ إدارة الشركة على استرجاعها.
الفضيحة تتزامن مع ملف آخر يلاحق “ريضال” والمتعلق بتقارير داخلية كشفت عن “فبركة” ملفات مرض لبعض كبار المسؤولين لتسهيل إحالتهم على التقاعد بطريقة غير قانونية، ما يكشف عن منظومة كاملة من المحاباة والامتيازات التي تحيط بكبار المدراء داخل الشركة.
أما مجلس مدينة الرباط، المفروض فيه ممارسة سلطة الرقابة باعتباره مالك المرفق المفوض، فقد أدار ظهره تماماً للملف، في حين تشير مصادر مهنية إلى أن بعض المحتلين يستقوون بعلاقات سياسية وحزبية، ويروجون داخل أروقة الشركة أنهم “محميون” ولا يمكن المساس بهم.
في المقابل، تطالب فعاليات مدنية ومهنية بتدخل صارم من وزارة الداخلية، خصوصاً بعد التحذيرات الصريحة التي وجهها الوزير عبد الوافي لفتيت خلال اجتماعات سابقة مع الولاة والعمال، حين أكد أن زمن التسيب في تدبير الممتلكات العامة قد انتهى، وأن ملف السكنيات الوظيفية سيكون محوراً لعمليات افتحاص واسعة النطاق تشمل الإدارات والجماعات وشركات التدبير المفوض.
ويرى مراقبون أن استمرار هذا النوع من الريع يوجه ضربة مباشرة لثقة المواطنين في الخطاب الرسمي حول الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، كما يكشف هشاشة الرقابة على تدبير الممتلكات العمومية. فكيف يعقل أن تُموَّل هذه الأصول من المال العام وتظل خارج أي مساءلة أو مراقبة لعقود طويلة، بينما تُغلق أبواب السكن الاجتماعي في وجه آلاف الموظفين والعمال الذين لا يجدون مأوى؟
في انتظار تحرك فعلي من الجهات الوصية، تبقى “ريضال” عنواناً صارخاً على ثقافة الريع الإداري المحمي، حيث يظل السكن الوظيفي امتيازاً سياسياً أكثر منه أداة لتسهيل المرفق العام، فيما تتراكم الملفات التي تؤكد أن العدالة في تدبير المال العام لا تزال مؤجلة.














