الصحافة _ وكالات
بعد ترقب طويل وشكوك كثيفة خيّمت على إمكانية خروج حكومته الثانية إلى النور، حظي الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية”، سعد الدين العثماني، مساء يوم الأربعاء المنصرم، باستقبال ملكي أشّر إلى ميلاد حكومته الثانية، في ترسيخ لعرف مغربي تكرر منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، يقضي بإجراء تعديل وزاري كبير منتصف كل ولاية حكومية. وتصرّ مصادر من داخل قيادة حزب “المصباح” (العدالة والتنمية الذي اتخذ المصباح التقليدي رمزاً انتخابياً له)، على أنّ الخطوة في حدّ ذاتها تعتبر إنجازاً كبيراً، مكذّباً جميع التوقعات بسقوط حكومة العثماني وعدم إنهائها مدة ولايتها كاملة.
لكن من أصل 11 عضواً له في الحكومة السابقة، تراجع حضور حزب “العدالة والتنمية”، المتصدّر لترتيب الكتل البرلمانية في مجلس النواب، إلى 7 أعضاء فقط في الحكومة الجديدة التي خفّض عدد أعضائها من 39 وزيراً وكاتب دولة في السابق، إلى 24 عضواً، من بينهم 18 وزيراً و5 وزراء منتدبين إلى جانب رئيس الحكومة سعد الدين العثماني. وباتت الحكومة في نسختها الجديدة تضم 4 سيدات، بعدما كانت في نسختها السابقة تضم 8.
كما خسر العثماني في حكومته الثانية، حليفاً سياسياً استثنائياً ظلّ حزبه يحافظ عليه منذ أول فوز له بالانتخابات التشريعية في المغرب، أي انتخابات العام 2011، وهو حزب “التقدم والاشتراكية” اليساري الذي انتقل إلى المعارضة.
هذه التغييرات، التي أدخلت على الحكومة المغربية الأربعاء الماضي، أخرجت 21 عضواً سابقاً من صفوفها، وهو أكبر تغيير تعرفه حكومة مغربية منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم عام 1999.
وشملت التغييرات بالخصوص، الحقائب والقطاعات الحكومية التي تديرها الأحزاب السياسية، فيما احتفظ جلّ الوزراء غير المنتمين لأحزاب، والذين يعرفون بالمغرب بالـ”تكنوقراط”، بحقائبهم الخاصة بقطاعات تعتبر سيادية، بل التحق وزير جديد بصفوف هذه الفئة، وهو وزير الصحة خالد آيت الطالب، والذي تولى هذه الحقيبة التي كانت من نصيب حزب “التقدم والاشتراكية” في النسخة السابقة من الحكومة.
وتعني هذه المعطيات تراجع الموقع السياسي لحزب رئيس الحكومة، والذي خسر أقرب حلفائه إليه في هذا التعديل، كما تراجعت مكانته داخلها سواء في مواجهة تكتّل الأحزاب الأربعة الأخرى المشكلة للأغلبية الحكومية (التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الاتحاد الدستوري، الحركة الشعبية)، والتي كانت قد اجتمعت عام 2016 لدعم وزير الزراعة رئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار” عزيز أخنوش، في صراعه مع رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، أو أمام كتلة الوزراء غير المنتمين.
وفي تعيينات الأربعاء الماضي، جدّد الملك تثبيت كل من ناصر بوريطة كوزير للخارجية والتعاون الدولي، وعبد الوافي لفتيت كوزير للداخلية، وأحمد التوفيق كوزير للأوقاف والشؤون الإسلامية، وعبد اللطيف الوديي كوزير منتدب لدى رئيس الحكومة مكلّف بإدارة الدفاع الوطني، إلى جانب محمد الحجوي، الأمين العام للحكومة (سكرتير عام)، وكلّ هؤلاء شخصيات غير متحزّبة ترتبط مباشرة بالقصر الملكي.
وسيقضي سعد الدين العثماني العامين المتبقيين في عمر ولايته الحكومية، وجهاً لوجه مع أربعة أحزاب “حليفة”، لكنها دخلت إلى حكومته بعد معركة ضارية خاضتها إلى جانب وزير الزراعة القوي، عزيز أخنوش، ضدّ رئيس الحكومة السابقة عبد الإله بنكيران. وهي المعركة التي انتهت بإعفاء هذا الأخير في مارس/آذار 2017، أي بعد قرابة 5 أشهر من فوزه بصدارة الانتخابات وتعيينه من طرف الملك رئيساً للحكومة.
التعيين الملكي الذي جرى عصر الأربعاء بالقصر الملكي بالرباط، وإن كان قد وضع نهاية لاحتمالات عديدة كانت تطلّ برأسها بعد تأخر الإعلان عن التعديل الوزاري، من قبيل فشل المشاورات والذهاب نحو حكومة وحدة وطنية وانتخابات مبكرة؛ إلا أنه يعتبر بمثابة بداية جديدة لفصل آخر من المواجهة مع الرجل الذي أطاح بسلف العثماني، أي عبد الاله بنكيران، ولا يخفي تطلعاته الواضحة للفوز بانتخابات 2021 التشريعية، والحصول على حق تشكيل ورئاسة الحكومة.
وزير الزراعة ورئيس حزب “التجمع الوطني للأحرار” عزيز أخنوش، الذي حافظ لحزبه على حقائبه الوزارية الهامة في كل من الاقتصاد والمالية والصناعة والتجارة، وأضاف إليها حقيبة السياحة؛ حرص في اليوم السابق على تعيين الحكومة الجديدة، على القيام بظهور إعلامي كبير عبر جلّ وسائل الإعلام العمومية والخاصة المقربة منه، إذ قام بتنظيم حفل كبير لإعلان انطلاقة الموسم الفلاحي، وذلك في اللحظة نفسها التي كانت فيها حكومة سعد الدين العثماني تعقد اجتماعها الطارئ صباح الثلاثاء، لمناقشة مشروع القانون المالي لسنة 2020، استعداداً لعرضه أمام مجلس وزاري ترأسه الملك مساء الأربعاء.
أخنوش الذي أرغم العثماني على تجميد مشاوراته لتعديل الحكومة منذ أمر الملك بذلك في خطاب العرش يوم 29 يوليو/تموز 2019، وإلى غاية انعقاد اجتماع للمكتب السياسي لحزب “التجمع الوطني للأحرار” في 20 سبتمبر/أيلول 2019، لم يعقد أي لقاء رسمي أو علني مع العثماني، في إشارة إلى أنّ وجوده ومكانته داخل الحكومة يتجاوزان رئيسها.
أكثر من ذلك، وخلال انشغال العثماني بتحضير الهندسة الجديدة لحكومته إلى جانب الديوان الملكي، اختار عزيز أخنوش تنظيم تجمع كبير لحزبه بمدينة المحمدية الواقعة شمال العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، أي في الدائرة الانتخابية التي ترشّح وفاز بها رئيس الحكومة الحالي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتوعّد من هناك بـ”العودة” إلى تلك المدينة، التي تعتبر معقل الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية” سعد الدين العثماني.
وأكد أخنوش في التجمّع ذاته الذي عقد في 29 سبتمبر الماضي، مواصلته تحركات ميدانية يعتبرها المراقبون حملة انتخابية شبه دائمة من جانب حزب “التجمّع الوطني للأحرار” الذي لا يخفي طموحه في تصدّر انتخابات 2021 التشريعية، وأعلن أنه ماض في تنفيذ خطة “100 يوم 100 مدينة”، من خلال الشروع مستهل شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في زيارات ميدانية ستتواصل إلى غاية يوليو/تموز 2020. وكشف أخنوش أنه اختار لائحة 100 مدينة “صغيرة ومتوسطة”، من أجل زيارتها.
تلويح لم يتأخر حزب “العدالة والتنمية” في الرد عليه، وإن كان أسلوب القيادة الحالية بزعامة العثماني يختلف عن القيادة السابقة بزعامة بنكيران من حيث القوة والصرامة في الرد على الخصوم السياسيين. ففي خروج سياسي غير معهود، قال نائب الأمين العام لحزب “العدالة والتنمية”، سليمان العمراني، إنّ الحزب واثق من قدرته على مواصلة تصدّر المشهد السياسي المغربي عبر الانتخابات التشريعية المرتقبة العام 2021. وأضاف العمراني أنّ “الحزب سيستمر في قيادة المشهد الحزبي، بما يقوم به من عمل ويبذله من جهد”.
مهمة لا يبدو أنها ستكون سهلة، إذ بات حزب “العدالة والتنمية” ذو المرجعية الإسلامية، مرغماً على المضي نحو الانتخابات المقبلة، متحملاً مسؤولية حكومة لا يمسك بجميع خيوطها، ومثقلاً بـ”معارضة” من داخل تحالفه الحكومي، إذ سينازعه رباعي أخنوش في جلّ الإنجازات التي قد تتحقق خلال هذه الولاية الحكومية، فيما سيتركه يواجه سلبياتها أمام الناخبين، باعتباره قائد الحكومة.
وفي الضفة الأخرى، أي المعارضة البرلمانية الحالية، وإن كان حزب “الأصالة والمعاصرة” صاحب ثاني أكبر كتلة برلمانية، يبدو وقد ضعف بسبب أزمته الداخلية؛ سيكون على حزب “العدالة والتنمية” مواجهة حزب “الاستقلال” العريق، والمتوثب للعودة إلى حكومة خرج منها عام 2013 في سياق مدّ إقليمي لما يعرف بـ”الثورات المضادة”، إلى جانب مواجهة أحزاب يسارية تعززت صفوفها بالحليف السابق، حزب “التقدم والاشتراكية”.