بين الليبرالية الجديدة والأوراسية الروسية: كيف يعاد توزيع الثقل الاستراتيجي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؟( بداية خلق مناطق نفوذ أوراسي وليبرالي في الشرق الأوسط)

8 يوليو 2025
بين الليبرالية الجديدة والأوراسية الروسية: كيف يعاد توزيع الثقل الاستراتيجي في شمال أفريقيا والشرق الأوسط؟( بداية خلق مناطق نفوذ أوراسي وليبرالي في الشرق الأوسط)

الصحافة _ بقلم : زكرياء البركاوي

بعد الحرب العالمية الثانية، شهد العالم العربي بزوغ نظام دولي جديد قائم على الثنائية القطبية، حيث فرضت الدول المنتصرة في الحرب هيمنتها، فقُسمت أوروبا بين معسكر أوراسي تقوده روسيا، ومعسكر ليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يلبث هذا الصراع أن تجاوز حدود أوروبا، إذ تحوّل من سعي لترسيخ واقع ما بعد الحرب إلى تنافس عالمي شامل على الموارد الأولية والمعادن الاستراتيجية، وامتد ليشمل السيطرة على المضايق البحرية والممرات التجارية الحيوية.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبح العالم العربي بشكل مفاجئ في وسط صراع غير مسبوق من حيث الأيديولوجيا والجيوسياسية: الحرب الباردة. لم يقتصر هذا النزاع على كل من أوروبا وآسيا، بل سرعان ما انتقل إلى المنطقة العربية، مقسماً دولها بين فريقين متنافسين: الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، والاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية من جهة ثانية.

في البداية، لم يكن هذا الانقسام واضحًا تمامًا، لكنه بدأ يتضح مع تصاعد التوترات الإقليمية وتدخل القوى الكبرى. كانت الولايات المتحدة مهتمة بتعزيز نفوذها في هذه المنطقة الغنية بالنفط، والدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، بينما نظر الاتحاد السوفيتي إليها كمنطقة مناسبة لتوسيع نفوذه الأيديولوجي ودعم حركات تحرير الشعوب.

وفي منتصف الخمسينيات، وبالتحديد في عام 1955، ظهرت واحدة من أبرز مساعي الغرب لاحتواء التأثير السوفيتي من خلال تأسيس حلف بغداد، الذي جمع المملكة المتحدة والعراق وتركيا وإيران وباكستان. كان الهدف هو إنشاء حزام دفاعي يحيط بالاتحاد السوفيتي من الاتجاه الجنوبي. بالنسبة للولايات المتحدة، يعد مثل هذا التحالف ركيزة أساسية في استراتيجيتها « لاحتواء » الشيوعية.

ومع ذلك، لم يحقق هذا المشروع أهدافه بالكامل في العالم العربي؛ إذ انضمت إليه بعض الدول، بينما رفضته دول عربية أخرى معتبرة أنه يمثل امتدادًا للنفوذ الاستعماري الغربي.في المقابل، شهدت الساحة العربية صعودًا قويًا للتيارات القومية التي رفعت شعار الوحدة والتحرر من الهيمنة الأجنبية. وكان الزعيم المصري جمال عبد الناصر في طليعة هذه الموجة، متبنّيًا سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، ما جعله ينظر إلى الاتحاد السوفيتي كشريك محتمل يدعم طموحات التحرر، خصوصًا في مواجهة قوى الغرب الداعمة لإسرائيل.

لم يكن هذا التقارب مع موسكو مدفوعًا في البداية بدافع أيديولوجي صرف، وإنما بشكل أساسي براغماتي. حصلت دول كالمصر وسوريا والعراق على دعم عسكري واقتصادي كبير من السوفيت، مما سمح لها بتقوية جيوشها وتحسين بنيتها التحتية، في ظل توتر علاقاتها مع الغرب نتيجة النزاع العربي الإسرائيلي وأزمة السويس.

مع مرور الوقت، زاد هذا الانقسام عمقًا. بينما تحافظ دول مثل السعودية ودول الخليج على علاقاتها العميقة مع الولايات المتحدة بسبب مصالحها المتعلقة بالنفط والأمن، نجد أن دولاً ذات توجهات قومية أو اشتراكية كالمغرب، سوريا، العراق، ليبيا واليمن الجنوبي تميل نحو الجانب الشرقي مستفيدة من الدعم السخي الذي تقدمه موسكو في مجالات متعددة.

ولم يكن هذا الاصطفاف مجرّد تحالفات سياسية، بل امتدت تداعياته إلى الأنظمة الاقتصادية، والخيارات الثقافية والاجتماعية، ليمهّد الطريق لعقود طويلة من الصراعات والتجاذبات بالوكالة في المنطقة.

وهكذا، تبلورت تدريجيًا ملامح خريطة جيوسياسية معقدة في العالم العربي، ظلّت ارتداداتها حاضرة حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي نفسه.

سنستقرئ في قادم الحلقات كيف تطورت هذه العلاقات، وما هي التحديات التي واجهتها المنطقة في ظل هذا الانقسام الحاد.

 

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق