الصحافة _ بقلم : هاجر الزواوي، ياسين الخياري
*أولا*: التعليم من أجلِ المَعنى لا من أَجل المُعدل
في مَنظومةٍ تعليميةٍ تراهنُ على الأَرقام كمُؤشِّرٍ للنجاحِ، تظلُّ “النقطةَ” عُنواناً بارزاً يُختزلُ فيه مسارٌ تعليميٌّ بأكمله؛ رقمٌ يقال عنهُ الكَثير، لكنّه لايقول الكَثير عنِ المُتعلم: عن مجهوداته، ظروفه الشخصية والعائلية، قُدراته، ثم تحولاته الداخلية… إلخ
من هنا نطرح سؤالا مهما وهو:
هل النُّقطة تَكفي لإنصافِ المُتعلم؟ أم أنّنا بحاجة إلى مُقاربة تُنصتُ لما هو أعمَق من الحاصلِ العددي، وترى في القُدرة والتقدم الفردي معياراً أكثر عدلاً وإنسَانية؟
بين النُّقطة والقُدرة، تتَأرجحُ العَدالة التربوية.. فأيُّ المعيارين أَحقّ بأن يُعتمد؟
النُّقطة في جَوهرها، ليست خاطِئة كمُؤشر لكنها مَحدودة؛ هي تعطي صُورة جُزئية، لحظية، عن أداء التلميذ في اختبارٍ مُعين، وغالبا تكون تحت ضغوط نفسية واجتماعية، قد تُشَوّشُ على قُدراته الحقيقية؛ تُساوي بين من يحفظ ومن يفهم، بين من يبدع في التّفكير ومن يُتقن النّقل الحرفي، لا تُنصفُ من يمتلك ذكاءً اجتماعيا أوذاتيا أو حركيا.. أو قدرةً تعبيرية شفوية، أو حِسّا عمليا، أو قدرة عالية على العملِ الجَماعي، أو موهبةٍ فَنية لاتقاسُ في ورقة، كما أنها لا تراعي الفَوارق الفردية في الإيقاعِ الفَردي والنّفسي، ولا تَحترمُ المَسارات المُختلفة التي يسلكُها التلميذ/المتعلم للوصول إلى الفهمِ العميق.
في المُقابل نجد “القُدرة” كميزانٍ أكثر عدلاً وإنصافاً لقياس التّعلم، إذ لا تَقتصر على ما تَحصّل عليه المتعلم من نقطةٍ، بل تُعنى بالمسار الذي قطعهُ، بالتحوّلات التي عرفها، بالجهد المَبذول رغم التّحديات؛ فالقدرة تُنصت لما وراء النتائج الظاهرة، لما يَتشكل في العُمق: المثابرة، الفهم التّدريجي والمُمارسة الواعية.
في هذا السّياق، لا يُقارن المتعلم/التلميذ نفسه بغيره، بل بنفسه، ويُحتفى بما أنجزه مهما بدا بسيطاً، مادام صادقا وأصيلاً، يُصبح التقييم حينها دعامةً لا حُكماً، ومجالا لبناءِ الثّقة بالنفس لا بهَدمها، وإقراراً بأن التعلمَ الحقيقي لا يقاس برقم.
وبهذا فنحن بحاجة ماسّة إلى الإنتقال من التّعليم القائم على “النقطة/المعدل” إلى التعليم الموجه نحو المَعنى، التعليم الذي يُعلي من قيمة التفكير والتّساؤل، لا من الحفظ والإجابات النموذجية؛ تعليم يُدرك أن التّقييم ليس لحظة مُحاسبة، بل فرصةً لفهم المتعلم ومرافقته نحو الأحسن والأجود والأفضل.
ثانيا: نَحو تقييم شامل وعادل
انطلاقا من محدودية النّقطة في التّعبير عن حقيقة مايملكهُ المتعلِّم من كفايات وقدرات، تُبرز ضرورة مُلحة لإعادة بناء منظومة التقويم على أساسات أكثر إنصافا وشمولاً، فنحن لا نعيش زمن التّلقين والإمتحان فقط، بل زمن التّنوع في الذكاءات، وتعدد طرق التعبير والفهم، وهنا يأتي:
*التقويم التكوينني* المستمر كَخيار تربوي أكثر واقعية، يُعطي للتعلم بعدا إنسانياً وتدريجيا، ولا يختصرُهُ في لحظة اختبار واحدة.
فبدلا من الإعتماد الكلي على اختبارات مكتوبة، يمكن إدراج أدوات متعددة مثل ملاحظات المدرس اليومية ك الدفاتر، العُروض الفردية والجَماعية، الأعمال المنزلية، والتفاعل داخل القسم… فمثلا قد لايبرع تلميذ في تحرير موضوع إنشائي، لكنه يُبدي فهما عميقا حين يناقش شفويا، أو حين ينتج عملا فنيا يُجسد الفكرة، وقد يعاني آخر من بطء في الحفظ، لكنه يظهر قدرات تحليلية في الربط بين المعارف.
وبهذا فالتقويم يصبحُ أداة مُرافقة للنمو لاَ مجرد حكم نهائي، هدفه ليس ترتيب المتعلمين، بل تَمكينهم من إدراك تطورهم الخاص وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، فالعدالة التربوية لاتعني أن نمتحن الجميع بنفس الطريقة، بل أن نَمنح كل متعلم فرصة عادلة ليُظهر ما يستطيع فعله بالطَّريقة التي لا تُناسبه.
وعليه فالسؤال الذي يجب أن يرافق كل فاعل تربوي هو:
هل نريد من التقيبم أن يكون مرآة حُكمٍ، أم بوابة دعمٍ وبناء؟ هل نُقيم من أجل فرز المتعلمين، أم من أجل مرافقة تقدمهم؟
ثالثا: تنوع الذكاءات المتعددة وتعدد أنماط التعلم
نظرية الذكاءات المتعددة هي نظرية تربوية وضعها العالم هاورد غاردنر (Howard Gardner) سنة 1983، وتفترض أن الذكاء ليس قدرة واحدة عامة (IQ)، بل مجموعة من القدرات المستقلة التي يمتلكها كل شخص بدرجات متفاوتة.
وقد قسمها إلى ثمانية أنواع رئيسية، وهي:
1. الذكاء اللغوي: القدرة على استخدام اللغة بفعالية (مثلاً: الشعراء، الكتاب، المتحدثون الجيدون).
2. الذكاء المنطقي-الرياضي: القدرة على التفكير المنطقي وحل المسائل (مثلاً: العلماء، المحللون).
3. الذكاء البصري-الفضائي: القدرة على التخيل والتصور المكاني (مثلاً: الرسامون، المهندسون المعماريون).
4. الذكاء الجسدي-الحركي: القدرة على استخدام الجسم أو اليدين بمهارة (مثلاً: الرياضيون، الجراحون، الراقصون).
5. الذكاء الموسيقي: القدرة على فهم الموسيقى والإيقاع (مثلاً: الموسيقيون، المغنون).
6. الذكاء الاجتماعي (أو التفاعلي): القدرة على فهم الآخرين والتفاعل معهم بفعالية.
7. الذكاء الذاتي: القدرة على فهم الذات والمشاعر واتخاذ القرارات بناءً على معرفة الذات.
8. الذكاء الطبيعي: القدرة على التعرف على الكائنات الحية وفهم الطبيعة (مثلاً: علماء الأحياء، الفلاحون، علماء البيئة).
وتتجلى العلاقة بين الذكاءات المتعددة والمتعلم في :
1. احترام الفروق الفردية:
كل متعلم يمتلك نوعًا من الذكاء يتفوق فيه على غيره.
لا يمكن الحكم على المتعلم بالفشل فقط لأنه لا يتفوق في الذكاء المنطقي أو اللغوي.
2. تنويع أساليب التعليم:
المدرّس مطالب باستخدام وسائل متنوعة (أنشطة، صور، موسيقى، ألعاب، حركية…) ليستجيب لكل الذكاءات.
مثلاً: تقديم درس باستعمال قصة (ذكاء لغوي)، تجربة علمية (ذكاء حركي)، فيديو (ذكاء بصري)، مناقشة جماعية (ذكاء اجتماعي).
3. تحفيز المتعلم:
المتعلم يكون أكثر دافعية عندما يُدرّس له وفق ذكائه المفضل.
فمثلاً: الطفل الذي يملك ذكاءً موسيقيًا سيتفاعل أكثر مع أغنية تعليمية من درس تقليدي.
4. بناء الثقة بالنفس:
المتعلم يشعر بالاعتزاز لما يُعترف بذكائه الخاص ويُوظف في القسم.
هذا يعزز من تقديره لذاته ويزيد من مشاركته في التعلم.
بناءً على ماسبق يمكننا القول أن نظرية الذكاءات المتعددة تغيّر نظرتنا إلى المتعلم من كائن يجب أن يحفظ ويعيد، إلى كائن مبدع له قدرات خاصة يجب احترامها وتنميتها؛ وهي دعوة للأساتذة ليُخططوا لدروسهم بطرق متنوعة تحترم اختلافات المتعلمين، وتمنح كل واحد منهم فرصة للتألق.
رابعا: حين يهدد الذكاء الإصطناعي ذكاء الإنسان
في عصر تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية بوتيرة غير مسبوقة، يبرز الذكاء الإصطناعي كواحد من أعظم اختراعات البشرية، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات عميقة ومقلقة حول مستقبل الإنسان ومكانته، فهل أصبح ذكاء الآلة يهدد ذكاء الإنسان فعلاً؟ وهل نحن أمام حقبة جديدة قد تتراجع فيها قدرات الإنسان العقلية لصالح أنظمة تفكر وتحلل بدلاً عنه؟
الذكاء الاصطناعي… نعمة أم نقمة؟
صُمِّم الذكاء الاصطناعي ليساعد الإنسان ويخفف عنه أعباء العمل الذهني والبدني، فصار يُستخدم في الطب، والهندسة، والتعليم، والخدمات، وحتى في الإبداع الفني والكتابة، غير أن هذه الطفرة التكنولوجية رافقها نوع من التراخي العقلي لدى الإنسان، إذ أصبحت الكثير من المهام اليومية تُؤدى تلقائياً بفضل الخوارزميات، ما قلل من اعتماد الفرد على مهاراته الذاتية في التفكير، والحساب، والتذكر، والتحليل…
فعندما يحل الذكاء الصناعي محل الذكاء الطبيعي
تكمن خطورة الاعتماد المفرط على الذكاء الإصطناعي في كون الإنسان قد يتخلى تدريجياً عن استخدام قدراته الذهنية، فعلى سبيل المثال، لم يعد التلميذ يحتاج إلى التفكير في حل المسائل الرياضية، بل يكفيه استخدام آلة ذكية تعطيه الجواب فوراً، ولم يعد الباحث يجهد عقله في تحليل النصوص أو تلخيص الكتب، إذ أصبح الذكاء الإصطناعي يوفر له ذلك بلمسة زر.
إن هذا الواقع، وإن كان مريحاً، يحمل في طياته تهديداً حقيقياً لتطور القدرات الفكرية للإنسان، بل وربما لانحدارها.
هل الذكاء الاصطناعي أذكى من الإنسان؟
قد تتفوق الآلة على الإنسان في الدقة، السرعة، ومعالجة كميات هائلة من البيانات، لكنها تظل خالية من المشاعر، والضمير، والحدس، والقدرة على الإبداع الحر؛ فالذكاء الإنساني ليس مجرد عمليات حسابية ومنطقية، بل هو تفاعل معقد بين العقل والعاطفة والتجربة.
ومع ذلك، فإن خطر الذكاء الاصطناعي لا يكمن فقط في قدرته على التفكير، بل في احتمالية استبدال الإنسان في كثير من المجالات، مما قد يؤدي إلى بطالة فكرية واجتماعية، وانكماش لدور الإنسان كفاعل معرفي ووجودي.
ما الحل؟ التوازن هو المفتاح
لعل الحل يكمن في تحقيق توازن ذكي بين استخدام الذكاء الاصطناعي وتنمية الذكاء الإنساني. فبدلاً من الإعتماد الكامل على الآلة، يجب أن نُوظّف الذكاء الإصطناعي كأداة تعزز قدراتنا، لا أن تحل محلها، كما يجب على المؤسسات التربوية أن تشجع على التفكير النقدي، والإبداع، والعمل الجماعي، حتى لا يتحول الإنسان إلى مجرد مستهلك للتكنولوجيا، فاقد لهويته العقلية.
صفوة القول يتبين لنا أن الذكاء الإصطناعي سلاح ذو حدين؛ يمكن أن يكون وسيلة للإرتقاء بالعقل الإنساني، أو سبباً في تراجعه، والاختيار بين المسارين يبقى في يد الإنسان نفسه، فإما أن يكون سيد التكنولوجيا، أو عبدًا لها.
وفي النهاية يمكننا القول بأن الإنصاف التربوي لا يُختزل في الحكم على المتعلم في نقطة عددية فقط، بل يجب اعتماد تقويم شامل، يجمع بين الكمي “النقطة”والكيفي” تحليل القدرات”، من خلال تقنيات متنوعة كالتقويم التكويني، والملاحظة، والملف الشخصي، والمهام المركبة…
فالنقطة أداة مؤقتة ومرئية لقياس التعلم، في حين أن القدرة تعكس الكفاءة الفعلية للمتعلمين. وتحقيق التوازن بينهما ضرورة لضمان عدالة التقويم وإنصاف المتعلمين وتقدير إمكاناتهم الحقيقية.
ربما آن الأوان لنحرر التعليم من ضيق الأرقام، ونَمنحه عمقه الإنساني من جديد.