الصحافة _ كندا
في الوقت الذي تتكاثر فيه القراءات السطحية وتُختزل فيه القضايا الكبرى في سرديات بسيطة، يحاول البعض أن يُقنع الرأي العام بأن نجاح المغرب في ملف الصحراء مرتبط حصراً بحدث التطبيع مع إسرائيل، وكأن الدبلوماسية المغربية وُلدت في تلك اللحظة وانتهت عندها.
غير أن الواقع السياسي والتاريخي يُثبت عكس ذلك تمامًا: فالموقف المغربي لم يكن وليد ظرفية، بل ثمرة رؤية استراتيجية عميقة تمتد على مدى عقود، نسجها الملك محمد السادس بخيوط متينة من الشرعية التاريخية والدبلوماسية والحنكة الجيوسياسية.
منذ تقديم مقترح الحكم الذاتي سنة 2007، قبل عقد ونصف من استئناف العلاقات مع إسرائيل، والمجتمع الدولي يصنف المبادرة المغربية ضمن الحلول الجدية والواقعية.
هذا التصنيف لم يكن نتيجة ضغط سياسي، بل اعتراف أممي بقدرة المغرب على تقديم نموذج متوازن يضمن الاستقرار ويحفظ الكرامة. فالمغرب لم ينتظر لحظة التطبيع ليكسب احترام العالم، بل راكم عبر التاريخ رصيدًا من الثقة والمصداقية جعله شريكًا استراتيجيًا موثوقًا لدى الشرق والغرب معًا.
الولايات المتحدة، التي دعمت مغربية الصحراء منذ 2020، لم تكن في حاجة إلى التطبيع لتقتنع بعدالة القضية المغربية، لأن علاقاتها مع الرباط تمتد إلى سنة 1956، حين وُقعت أول اتفاقيات التعاون العسكري والاقتصادي بين البلدين.
أما في الجانب الآخر من الخريطة، فإن مواقف روسيا والصين، اللتين امتنعتا عن التصويت في مجلس الأمن، لم تكن انحيازًا لمغرب “مطبع”، وإنما احترامًا لمقاربة واقعية وسيادية يدافع عنها المغرب بثبات وهدوء، بعيدة عن الاصطفافات الإيديولوجية.
في العالم الإسلامي، لم يأت امتناع باكستان، الدولة المحافظة في مواقفها من إسرائيل، من باب التطبيع، وإنما انسجامًا مع نهجها الدائم الداعي إلى حلول سياسية توافقية. كما أن دعم دول مثل الإمارات، قطر، السنغال، كوت ديفوار، البرازيل، والعديد من الدول الأوروبية الشرقية، لم يكن نتيجة تحالفات ظرفية، بل اقتناعًا بأن مقترح الحكم الذاتي المغربي هو الحل الوحيد القابل للتطبيق والضامن للاستقرار في منطقة مضطربة.
نجاح المغرب ليس نتاج صدفة أو دعم تكتيكي، بل ثمرة دبلوماسية ذكية متعددة الأبعاد:
في إفريقيا، عبر سياسة التعاون جنوب–جنوب التي جعلت الرباط فاعلاً تنمويًا قارياً لا مجرد مراقب؛
في أوروبا، عبر شراكات متوازنة تقوم على الاحترام والمصالح المشتركة؛
مع الولايات المتحدة، من خلال تحالف استراتيجي متين أثمر ثقة متبادلة؛
ومع الصين وروسيا، من خلال سياسة الاحترام المتبادل وعدم التدخل.
هذه القدرة على التحرك في كل الاتجاهات دون أن يفقد المغرب استقلالية قراره هي ما يصنع تفوقه الدبلوماسي الحقيقي. فالدولة التي تجمع بين المختلفين وتبني الجسور حيث يبني الآخرون الجدران، هي دولة تملك رؤية وليست أسيرة ظرفية سياسية.
إن من يحاول التقليل من الإنجاز المغربي إنما يهرب من مواجهة الحقيقة: المغرب نجح لأنه خطط، وتقدّم لأنه عمل، وكسب العالم لأنه استثمر في المصداقية لا في الشعارات. فالقضية لم تعد “من مع ومن ضد”، بل من يملك رؤية للمستقبل ومن يعيش على أوهام الماضي.
من أراد أن يفهم سر هذا النجاح فليقرأ في فكر الدولة المغربية الحديثة، لا في عناوين منصات التواصل.
فكما يقول الحكماء: السياسة لا تُصنع بالصوت العالي، بل بالعقول التي تعرف متى تصمت ومتى تتحرك.














