الصحافة _ كندا
في زمن تتداخل فيه التهديدات الأمنية وتتشابك فيه الأزمات الجيوسياسية عبر القارات، فرض المغرب نفسه بهدوء، لكن بثبات، كأحد الأعمدة الصاعدة في هندسة النظام الأمني العالمي. لم يعد حضور المملكة في المحافل الأمنية الكبرى مجرد تمثيل بروتوكولي، بل أضحى تعبيرًا عن ثقل استراتيجي ومكانة راسخة تستند إلى عقود من العمل الميداني المحترف والرؤية المتبصرة التي رسم ملامحها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله.
النموذج الأمني المغربي لم ينبثق من فراغ، بل هو نتاج مدرسة تراكمت فيها التجربة وصقلت فيها المهارات، حتى تحولت إلى مرجعية إقليمية ودولية في مجالات محاربة الإرهاب، وتجفيف منابع الجريمة المنظمة، والتصدي لتهديدات الهجرة غير النظامية، والحد من التطرف السيبراني، وكل ذلك وفق مقاربة تحترم القانون وحقوق الإنسان دون تفريط في الصرامة والجاهزية.
اليوم، لم تعد المعلومة الاستخباراتية المغربية سلعة نادرة تُطلب في لحظات الخطر فقط، بل أصبحت معتمدة بشكل يومي في المنظومات الأمنية لعدد من الدول الشريكة، سواء في أوروبا أو إفريقيا أو حتى في مناطق أبعد. هذه الثقة لم تأت من فراغ، بل من سجل حافل في العمل الاستباقي الذي جعل المملكة في صدارة الدول القادرة على كشف الخلايا الإرهابية قبل أن تتحرك، وضبط تحركات الشبكات العابرة للحدود قبل أن تبلغ أهدافها.
الاعتراف الدولي بالمغرب لم يتوقف عند الشراكات الثنائية أو العمليات الأمنية الناجحة، بل تُوج بانتخاب المغرب، لأول مرة في تاريخه، كنائب لرئيس منظمة الإنتربول عن القارة الإفريقية خلال المؤتمر الذي احتضنته مدينة غلاسكو في نونبر 2024. ولأن التقدير الدولي لا يُمنح مجاناً، فقد تم تسليم علم الإنتربول إلى المغرب، ليحتضن في مراكش أشغال الدورة 93 للجمعية العامة للمنظمة في نونبر 2025، وهو حدث غير مسبوق على مستوى القارة الإفريقية.
المغرب لا يتهيأ لهذا الموعد العالمي كمجرد بلد مضيف، بل كصاحب رؤية ومقاربة أمنية يُعتد بها، إذ يطمح إلى أن تكون هذه القمة منصة دولية لتقديم فلسفة “الأمن النظيف” التي تتبناها المملكة، وهو أمن يستند إلى فعالية ميدانية صارمة، دون المساس بالكرامة الإنسانية أو المبادئ الكونية.
هذه المدرسة الأمنية المغربية، التي يقودها عبد اللطيف حموشي، المدير العام للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، أثبتت أنها قادرة على تحقيق معادلة صعبة: الانفتاح على العالم مع التمسك الصارم بالسيادة الوطنية. فالمغرب بات اليوم جسرا استخباراتيا يربط إفريقيا بأوروبا، وفاعلا محوريا في تأمين استقرار منطقة الساحل والمجال المتوسطي، كما أصبح شريكا لا غنى عنه في الجهود الدولية لمكافحة التهديدات الإرهابية والجريمة المنظمة.
المقاربة المغربية للأمن تستمد قوتها من فلسفة شمولية ترى أن التصدي للتهديدات لا يكون فقط عبر الحلول الأمنية المباشرة، بل أيضا من خلال تطوير شراكات قائمة على الثقة والتعاون الصادق، بعيدا عن منطق التبعية أو الاصطفاف الأعمى. ولهذا السبب بات المغرب يُستشار في صياغة السياسات الأمنية على المستوى الدولي، ويُعهد إليه بتنظيم القمم الكبرى، ويُطلب منه أن يلعب دور الوسيط والضامن في أزمات عابرة للحدود.
إن المسار الذي رسمته المملكة المغربية في هذا المجال هو ثمرة رؤية ملكية متبصرة تعتبر أن الأمن ليس مجرد أداة للردع، بل هو رافعة للاستقرار والتنمية وبناء جسور الثقة بين الشعوب والدول. المغرب اليوم لم يعد فقط شريكاً أمنياً معتمداً عليه، بل أصبح صانعاً للثقة في معادلات الأمن الإقليمي والدولي.