الصحافة _ أمريكا
نشر الدكتور هشام العلوي على مواقع التواصل الإجتماعي تدوينة مرفوقة بعدد من الصور يخبر من خلالها متابعيه، أنه قد تمت دعوته الشهر الماضي ليكون متحدثا رئيسيا في حفل تخرج بجامعة بيركلي الأمريكية بولاية كاليفورنيا، وجاء في تدوينة الأمير، “دُعيت الشهر الماضي لأكون المتحدث الرئيسي في حفل تخرج قسمي الاقتصاد السياسي والدراسات الدولية في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا. لقد كان شرفًا كبيرا لي أن ألقي كلمة أمام دفعة الخريجين لعام 2024، كما كانت طريقة رائعة لتتويج فترتي التدريسية في هذه الجامعة الرائدة”.
وفيما يلي خطاب التخرج :
في البدء إنه لشرف عظيم لي التواجد معكم. ثم أود أن أشكر العميد ليوناردو أريولا على دعوتي للتحدث هنا اليوم. وأود أيضًا أن أشكر البروفيسورة إيميلي غوتريتش على تقديمها الكريم لي. والأهم من ذلك كله، أشكركم جميعًا على ترحيبكم بي بينكم.
إنني أتحدث هنا اليوم ليس فقط كضيف، بل كمدرس. لقد حظيت بسعادة وامتياز كبيرين بالتدريس خلال الربيع الماضي مقرر عن سياسات الشرق الأوسط. لقد جعلني التدريس ومشاركاتي في الحرم الجامعي بشكل عام، في تواصل فكري مع الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الآخرين في هذه الجامعة الموقرة.
يكتسب تألق مجتمعكم الأكاديمي أهمية خاصة بالنظر إلى مهمة بيركلي كمؤسسة عامة للتعليم العالي. فهي تخدم كاليفورنيا، وبمعنى أوسع أمريكا والعالم، في الارتقاء بجميع العقول إلى أقصى إمكاناتها. هذه العلاقة العميقة والحيوية بين جامعتنا والعالم الخارجي هي ما أود الحديث عنه اليوم.
كمجتمع عالمي، لطالما عشنا أوقاتا صعبة. في الماضي، واجهت البشرية تهديدات وجودية بدت في البداية مستعصية على الحل. وفي القرن العشرين، أمراضًا معدية مثل الجدري، وشهدنا كسادًا اقتصاديًا كارثيًا، وواجهنا خطر الإبادة النووية.
إلّا أننا نواجه في وقتنا الراهن مجموعة جديدة من التحديات. فقد كشفت الأزمات غير المسبوقة عن محدودية التفكير في العالم من خلال مصطلحات تتمحور حول الدولة فقط. فقد كشف تزايد عدم المساواة عن أوجه القصور في نماذجنا الاقتصادية للتنمية. ويهدد التغير المناخي البشرية جمعاء بسبب الاحتباس الحراري. وجاءت حالات طوارئ الصحة العامة من الأوبئة المتزايدة، وربما مسببات الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية قريبًا. وعانت الحريات الديمقراطية من تآكل حاد. وتستمر المآسي الإنسانية في مناطق الحروب، مثل فلسطين.
في الماضي، كنا نتغلب على المشاكل العويصة بالاعتماد على الدول. أما الآن، فالمشكلة هي الدولة. فهياكل الدولة القائمة، التي تضع فيها الحكومات الوطنية سياساتها خلف الحدود الإقليمية، لا يمكنها وحدها حل الكوارث العابرة للحدود الوطنية. ومما يضاعف المشكلة أن الدول الأقوى تستهين بالدول الأضعف. ونتيجة لذلك، تراجع التعاون المتعدد الأطراف بين الدول بشكل كبير. فالهيئات العالمية مثل الأمم المتحدة ليست فعالة إلا بقدر فعالية القوى العظمى التي تهيمن عليها.
لكي نزدهر في هذه الأوقات الصعبة، يجب علينا أن نفكر فيما هو أبعد من الدولة، وأن نعيد تركيز طاقاتنا على اللبنة الأساسية في بناء المجتمع البشري، ألا وهي الناس. وعلينا أن نعيد النظر في دور الأشخاص العاديين باعتبارهم عوامل تغيير، قادرين على إيجاد حلول إبداعية على المستوى المحلي.
نحن جميعا، طلابا وعلماء، نقف الآن في موقف حساس. ويتعين علينا أن نعترف بهويتنا ليس فقط كأعضاء في الدول القومية، بل كمواطنين عالميين. المواطنة العالمية تعني تحمل المسؤولية الجماعية عن المشاكل العابرة للحدود الوطنية. ويتطلب الالتزام بالتنظيم والتعبئة.
وفي هذا المشهد، تحتل الجامعة مكانًا محوريًا. ويجب ألا تكتفي الجامعات مثل بيركلي بنقل الكفاءات والمهارات الحديثة اللازمة للعمل في الاقتصاد العالمي، بل يجب أن تتجاوز ذلك من خلال توفير حس المواطنة العالمية الذي يمكن أن ينشط المجتمع المدني من خلال غرس قيمنا الأخلاقية بهدف تضامني.
وبالتالي فإن للجامعات مهمة أسمى. فهي مختبرات حقيقية للتربية المدنية. فهي لا تحوّلنا ببساطة إلى مجرد ناخبين في نظامنا السياسي، بل إلى مشاركين فاعلين في المحادثات العالمية حول واجباتنا وأزماتنا المشتركة. ومثل تعلم لغة أجنبية، فإن انغماسنا في الحياة الجامعية يمنحنا إطارًا جديدًا تمامًا للتفكير في العالم.
لنكن واضحين: لن نعيش أبدًا في عالم خالٍ من الدول السياسية. ستبقى القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين ركائز النظام الدولي. وستستمر أدوات القوة التقليدية، مثل العمل العسكري والتجارة الاقتصادية.
ومع ذلك، يجب استكمال هذه الأدوات بعمل جماعي قوي. ويجب أن تساهم مجتمعات مثل مجتمعنا في إيجاد حلول مبتكرة. يجب علينا تنشيط مناقشاتنا العالمية من الأسفل إلى الأعلى من خلال التعبئة على المستوى المحلي. نحن نحشد بطرق مختلفة وفي أوقات مختلفة، ولكن دائمًا بهدف تسليط الضوء على الظلم، وتعزيز مسؤوليتنا، وتنظيم طاقاتنا الجماعية في أهداف إيجابية.
إن مفهوم الدول كنقطة ارتكاز لحل المشاكل لا يتجلى في أي مكان أكثر وضوحا من الأزمة حول فلسطين. فالقضية الفلسطينية اليوم هي اختبار حقيقي لالتزامنا بالمواطنة العالمية. بعد أجيال من الصراع، يمكننا أن ندرك بعض الحقائق البسيطة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فهي تتطلب أن يتعايش الشعبان في سلام متبادل، ولكننا لا نستطيع أن نعرف الشكل الذي يمكن أن يتخذه هذا التعايش بالنظر إلى الفرص الضائعة في الماضي.
لقد فشلت آخر محاولة جادة لحل الأزمة الإسرائيلية-الفلسطينية لأنها لم تفعل سوى فرض إرادة الدول المهيمنة على صراع تاريخي معقد، دون إعطاء الأولوية لمُثُل المساواة والعدالة وتقرير المصير. وهذه هي الشروط الأساسية للسلام الدائم. وبعبارة أخرى، سكبت قهوة قديمة في فناجين أقدم.
لم يكن بوسع أحد أن يتنبأ بالمذبحة الهائلة التي شهدها هذا الصراع في الآونة الأخيرة. لقد جردت عقود من الاحتلال والاستعمار الفلسطينيين من إنسانيتهم. وفي 7 أكتوبر 2023، ردت حماس بعنف وتقتيل لا يصدق ضد المدنيين الإسرائيليين. وكان الرد على هذا العنف من طرف إسرائيل هو المزيد من التطهير العرقي وجرائم الحرب والمعاناة الإنسانية داخل غزة الفلسطينية. يجب أن تُحاسب حماس، وسوف تُحاسب. ولكن، من سيحاسب الحكومة الإسرائيلية؟
ومع ذلك، لم يكن لأحد أن يتوقع حجم موجة الاحتجاجات الشعبية التي صاحبت الحرب. فقد شهدنا في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم، بل وحتى هنا في حرمنا الجامعي في بيركلي، مظاهرات واحتجاجات تندد بالانتهاك الصارخ للقانون الدولي وسفك الدماء في حرب غزة. تعكس هذه التعبئة الشعبية في أفضل صورها جوهر المواطنة العالمية.
قد نختلف في سياستنا. إلا أننا نشترك في إيماننا المتضامن بأن الطريقة التي نتصرف بها هنا، في حياتنا اليومية، يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي في كل مكان. وفي الوقت نفسه، نرفض التعصب بجميع أنواعه. يجب أن نحمي حق الجميع في الكرامة. كما يجب علينا أن ندرك أن الأمن الحقيقي لا يمكن قياسه من الناحية العسكرية البحتة. فالأمن الإنساني بجميع أبعاده لا يعني فقط غياب العنف، بل يعني بالأحرى توفر الظروف الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية للحفاظ على الكرامة العميقة لكل فرد.
يجب أن تستمر الأصوات الشابة الشجاعة، مثل أصواتكم جميعا، في تحقيق أعمال ذات مغزى. لا يمكننا الاعتماد على نخبنا السياسية المتحصنة داخل سلطة الدول التي عفا عليها الزمن لاتخاذ القرارات نيابة عن إرادتنا الأخلاقية. فالمواطنة العالمية تتطلب المشاركة والانخراط الشعبي، وهذا بدوره يقع على عاتقكم.
وهنا، ستواصل الجامعة سعيها نحو التميز العلمي. وستفعل ذلك تحت قيادة أكاديمية قوية وأساتذة موهوبين. بالنسبة لكم جميعًا، تبدأ رحلتكم الآن وأنتم تغادرون هذه المؤسسة. لقد احتضنت بيركلي شغفكم الشخصي وأفراحكم الفكرية. والآن، تقع على عاتقكم مسؤولية تطبيق هذا الدافع الهادف على المشاكل التي تتشاركها البشرية جمعاء.