الصحافة _ كندا
في لحظة تكشف حجم الاستهتار بالمرفق العمومي واستغلاله الفج لخدمة أجندة حزبية ضيقة، أطلقت زكية الدريوش، كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري، قنبلة سياسية في تجمع حزبي للتجمع الوطني للأحرار، حين تحدثت، بكل افتخار، عن دعم يُقدَّر بمليار و100 مليون سنتيم وُجه لأحد المنتمين لحزبها، في ما يشبه توزيع “الغنائم” داخل بيت سياسي يعيش على منطق الزبونية والانتماء.
إن ما تفوهت به الدريوش لا يدخل في خانة “زلات لسان” أو “خروج غير محسوب”، بل هو تعبير صريح عن ذهنية التمليك الحزبي للمصالح العمومية، وعن منطق يربط الدعم والتمويل ببطاقة الانتماء السياسي، ويحوّل المال العمومي إلى رافعة انتخابية تحت يافطة “مشاريع استراتيجية”.
أسئلة كثيرة تطرح نفسها اليوم: ما الذي دفع مسؤولة حكومية إلى الكشف عن تفاصيل دعم بهذا الحجم في لقاء حزبي مغلق؟ ولماذا اختارت أن تمرر هذه المعلومة الحساسة وسط حشد من “رفاق الحزب”؟ وكيف يمكن تفسير هذا الربط الخطير بين الدعم العمومي وانتماء المستفيد لحزب التجمع الوطني للأحرار، في تحدٍّ سافر لمبدأ تكافؤ الفرص وشفافية البرامج العمومية؟
المثير للسخرية أكثر أن الدريوش، وفي ردها على الجدل، حاولت الالتفاف على الفضيحة بعبارات تقنية باردة تتحدث عن دعم “غير نقدي” مصدره شركاء دوليون، وكأن الكارثة لا تكمن في نوعية الدعم، بل في الطريقة الفجة التي جرى بها تسويقه. فهل كانت هذه الأموال مخصصة لتلميع صورة الحزب؟ وهل يدرك الشركاء الأجانب أن تمويلاتهم تُعرض اليوم كورقة تفاخر حزبية على منصات التجمعات السياسية؟
هذه السابقة السياسية الخطيرة لا يمكن عزلها عن منطق الهيمنة الذي بات يطبع سلوك حزب التجمع الوطني للأحرار، حزب لا يتردد في تحويل كل مشروع وكل فرصة وكل برنامج إلى مادة انتخابية خالصة، ولا يرى في العمل العمومي سوى وسيلة لضمان الولاء وتجديد الشبكات الزبونية.
إن الخروج الإعلامي للدريوش يعرّي منظومة مريضة تعتبر أن البرامج التنموية ليست سوى أدوات لخدمة مصالح الحزب، وأن من لا ينتمي لا يستحق، ومن لم يصفّق يُقصى، ومن لم يلتحق يُعاقب. فهل نحن أمام سياسة عمومية أم حملة انتخابية دائمة لا تنتهي؟
ما وقع يُثبت بالملموس أن الفساد لا يكمن فقط في الأرقام والصفقات، بل يبدأ حين يتحدث المسؤول بلغة الحزب لا بلغة الإنصاف، ويمنح الامتيازات لمن هم “معنا”، ويوصد الأبواب في وجه من هم “ليسوا معنا”.
زكية الدريوش اختارت أن تمارس السياسة بمنطق الغنيمة، وأن تحوّل المرفق العمومي إلى ملحق انتخابي. لكن الأهم من ذلك، أن هذه الواقعة تفضح من يقف خلفها، ومن يقود هذا الانحراف السياسي المستمر… رئيس حزبها عزيز أخنوش، الذي جعل من حكومته ذراعا لحملته الدائمة، ومن وزرائه أدوات للدعاية والتعبئة الحزبية.
ما حدث ليس زوبعة، بل صفعة للوعي الوطني. صفعة تقول إن المال العام أصبح يُعرض في أسواق السياسة، وأن بعض المسؤولين فقدوا الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية والتمييز بين حدود الدور العمومي ومصالح التنظيم الحزبي.
ولعل أخطر ما في الأمر، أن الصمت على مثل هذه الانزلاقات هو تواطؤ ضمني مع عقلية الاستقواء السياسي. فهل من محاسبة؟ أم أن من يملك المال والإعلام لا يُسأل؟