الصٌَحافة _ بلال التليدي
الكتاب: البؤس الجنسي والبغاء: دراسة سوسيولوجية
الكاتبة: فوزية برج
الناشر: المركز الثقافي العربي ـ البيضاء ـ المغرب
الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات 176
تعد ظاهرة البغاء من الظواهر القديمة التي اخترقت مختلف المجتمعات، وتكيفت مع التحولات العميقة التي عرفتها البنيات الاقتصادية والاجتماعية، فأصبحت بفعل تشابك أبعادها ظاهرة معقدة، يصعب تفسيرها وإدراك محدداتها من غير دراسات سوسيولوجية تحقق قدرا مهما من التراكم المعرفي في هذا المجال.
ولعل ما يزيد من تعقيد الظاهرة، أنها تأخذ في المجتمعات العربية طابعا خاصا يحكمه ثقل الديني والقيمي، إذ لا تزال طابوها مسكوتا عنه، حتى إن كثيرا من الباحثين للاعتبار الديني والأخلاقي، ينأون بأنفسهم عن الدخول لهذا الحقل السوسيولوجي، لفهمه ومعرفة مكوناته، وأهم الفاعلين فيه، ونمط العلاقات التي تحكمهم، فضلا عن الديناميات والتفاعلات والقواعد التي تحكم مكونات هذا الحقل. ولعل هذا ما يفسر بشكل أساسي ندرة الدراسات العربية، واستفراد الأجانب بكثافة البحث السوسيولوجي فيه.
ويعد كتاب “البؤس الجنسي والبغاء” للباحثة فوزية برج، من المساهمات الجادة في تفكيك هذه الظاهرة، ورفع الحجاب عن الكثير من مسكوتاتها، ومحاولة استكشاف هذا الحقل السوسيولوجي الذي كان مسيجا بعتمة شديدة، لا تسمح بفهم محددات الظاهرة، وأهم الفاعلين فيها، وأنماط العلاقات التي تحكمهم، والقوانين الضمنية التي تؤطر هذه الظاهرة.
ومع أن الكتاب يدرس ظاهرة البغاء في المجال المغربي، إلا أن الملاحظات السوسيولوجية الكثيفة التي وفرها، تعطي صورة دقيقة عن ظاهرة البغاء في المجتمعات العربية، وأهم العوامل التي تفسرها، بل تقدم المبررات الكافية التي تخفض من عاملية القراءة الأخلاقية، وتركز على محددات أخرى موضوعية تضع ظاهرة البغاء ضمن آليات الاقتصاد الجنسي.
الاستعمار الفرنسي ومسؤوليته في نشر مؤسسات البغاء في المغرب
تضع الكاتبة ضمن مقدمات بحثها السوسيولوجي فرشا تاريخيا مهما، تحاول من خلاله البحث عن حفريات البغاء في المغرب. ومع تذكيرها بقدم الظاهرة، إلا أنها ركزت بشكل أساسي على التاريخ الكولونيالي، ومسؤولية الاستعمار الفرنسي في إبراز مؤسسة البغاء ومأسستها والتطبيع معها، إذ أخرجت فرنسا مؤسسات البغاء إلى المغرب، وطبقت مع توقيع معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 القوانين نفسها التي كانت تطبقها على هذه المؤسسات في التراب الفرنسي، فقد كانت السلطات الاستعمارية الفرنسية تخضع البغايا لرقابة الشرطة والطبيب، وتسجلهن في سجلات السلطة المحلية والشرطة.
وتعد سنة 2014، السنة التي جمعت فيها السلطة البغايا في مؤسسات خاصة، وأخضعتهن لمراقبة الأمن وللفحوص الطبية المتوالية، حيث اشتهرت هذه المؤسسات في مدن الدار البيضاء والرباط وفاس ومكناس ومراكش. وشكل ماخور “بوسبير” في الدار البيضاء أكبر المواخير العالمية، إذ كان يضم أكثر من 600 نزيلة، فيما تحدثت بعض المصادر عن وجود 3000 بغي بهذه المؤسسة، فيما اشتهرت مراكش بماخور حي العرب وماخور حي الملاح الخاص باليهود.
أثنوغرافيا البغاء في المغرب
تعرضت الباحثة لسيل من الدراسات التي تناولت ظاهرة البغاء في العهد الكولونيالي، وأشارت إلى دراسة روبير مونتان التي تناولت بالبحث السوسيولوجي وظائف البغايا في ماخور “بوسبير”، وركزت على 600 بغي منهن، إذ ربطت هذه الدراسة مشكلة البغاء بمشاكل التحضر والعالم القروي، واستقرار اليد العاملة، وحاجيات البروليتاريا الحضرية والتصنيع.
وقد قدمت هذه الدراسة معطيات مفصلة عن أبعاد الحياة الاجتماعية للبغايا المهنية والمؤسساتية، وأشكال العيش والتنقلات وتقنيات الجسد والجنس والتحدث وغير ذلك. وتقف دراسة مونتان على عدد من العوامل المفسرة لظاهرة البغاء في حي “بوسبير”، منها الهجرة إلى المدنية، وتفكك الأسرة، والبؤس، إذ ذكرت الدراسة أن الشروط الاقتصادية تؤدي دورا أساسيا في ممارسة البغاء، إضافة إلى العزلة عن الوسط الأسري، كما تركز الدراسة على تحول بعض عاملات البيوت إلى بغايا بسبب ما أسمته الباحثة بالعبودية المنزلية.
هذا، ولم تقتصر الباحثة على تفسير العوامل التي تقف وراء البغاء، وإنما تناولت أيضا الأنماط العلائقية داخل بنية البغاء، متوقفة بهذا الخصوص على تجارب بداية الاحتراف ودور مؤسسة القوادة في إحداث النقلة، وكيف تتمظهر ممارسة السلطة والهيمنة بين مؤسسة القوادة والبغاء، وحاولت الباحثة استثمار المعطيات التي جمعتها لمعرفة طبيعة الزبائن وخصائصهم وأنماط القوة والسلطة والهيمينة، التي تكون بين الزبون والبغي، وثقافة المراوغة والاحتيال والمخاتلة التي ينتجها البغي للتحلل من الهيمنة واستثمار الضعفاء من الزبائن، والمخاطر التي يشكلها تحول العلاقة العابرة إلى حب ورغبة في الزواج بالنسبة لبنية البغاء.
وبالإضافة إلى دراسة مونتان، حاولت الباحثة استقصاء عدد من الدراسات السوسيولوجية الفرنسية والأمريكية والعربية، وتوقفت بهذا الخصوص على جهود الباحثة السوسيولوجية خديجة المسدالي من خلال بحثها: “مشكلة البغاء في الوقت الحاضر سنة 1974″، التي حاولت أن تربط في خلاصات بحثها بين ظاهرة البغاء ونقص الترابط والتلاحم المجتمعي، كما حاولت الباحثة أن تميز بين ثلاثة نماذج من الدراسات السوسيولوجية الفرنسية والأمريكية لظاهرة البغاء، نموذج يركز في تحليله على شخص البغي، ونموذج يتناول الجسد الاجتماعي للبغاء، ونموذج ثالث يركز على التفاعل الاجتماعي. فحاول جون غابرييل مانسيني أن يفسر ممارسة البغاء من خلال البحث في أصول البغايا، محاولة الإجابة عن أسئلة: من أين تأتي البغي؟ وكيف ولماذا تصبح بغيا؟ فحصر تفسير الظاهرة في ثلاثة محددات: البيئة الأسرية، والوسط السوسيوثقافي، والعوامل المعجلة(اللذة، المال، الصورة الإيجابية عن البغاء)، كما تعرضت الباحثة لجهود فكتوار لويس، وطرحها لإشكالية ملكية جسد المرأة وارتباطه قديما بالهيمنة الذكورية التي لم تستطع تجاوزها من داخل النسق البطريركي الكوني، الذي يحيل على الجسد الإنجابي، ووضعت فرضية ترى فيها أنه لا يمكن تحليل البغاء بمعزل عن وضعية المرأة والوظائف التي تقوم بها.
كما استوقف الباحثة جهود كولد فوسي بولياك السوسيولوجية التي ركزت على البغاء وما يطرحه من مشاكل على مستوى الممارسات التي يتضمنها. كما استعرضت الأبعاد المفاهيمية للبغاء من خلال عدد من الدراسات والتأطيرات النظرية (البغاء ممارسة جنسية بالمقابل)، وحددت خصائص الفعل البغائي (التعود والمسعة السيئة، المقابل، غياب الخيارات، غياب المتعة وتعدد الزبائن)
البغاء كآلية من آليات الاقتصاد الجنسي
خصصت الباحثة الفصل الثالث من الكتاب لوصف المعطيات الميدانية لدراستها السوسيولوجية، إذ اشتغلت على جمع معطيات الدراسة ما بين 2003 و2009، مركزة بالأساس على معرفة السلوك البغائي وعلاقته بالتنظيمات الحاضنة له، والدلالات التي يتبادلها الفاعلون في حقل البغاء، فحصرت مصادر معطياتها في 40 بغيا، قامت بمقابلتهن في مقابلات شبه موجهة، وشملت الدراسة الميدانية منطقتي مكناس والجاجب، وتم اختيار عينة البحث من النساء اللواتي يمارسن البغاء في ثلاثة مجالات (منازل البغاء بالحاجب، وفندق الريف بمكناس، موقف للا عودة بمكناس)، وأرفقت الباحثة بهذا الفصل جداول تبين الخصائص السوسيولوجية لعينتها البحثية، سواء باعتبار السن أو الحالة العائلية أو الدراسية أو الأصل الجغرافي، وكذا المهن السابقة.
وبعد تحليل المعطيات الكثيفة التي تم تجميعها من خلال هذه المقابلات، خلصت الباحثة إلى أن ظاهرة البغاء تفسر أولا بردود فعل عن واقع التهميش، وجرح الطلاق وحالة الإقصاء والرفض التي تعانيه المطلقة حتى داخل أسرتها، والعمل المنزلي الذي يشكل نقطة عبور لمهنة البغاء، والإقصاء الاجتماعي والهشاشة والعنف الاقتصادي.
كما قدمت الباحثة في الفصل السادس من كتابها معطيات كثيفة عن النسق البغائي ونموذج الانتفاع الذي يحكمه، إذ توقفت بهذا الخصوص على دخل البغايا من ممارسة البغاء، وتنوعه واختلافه بحسب الوظائف والخدمات الجنسية المقدمة، وتوقفت عند محورية الدخل في بناء التواطؤ بين البغي والأسرة، وكيف يخلق هذا الدخل واقع التطبيع داخل الأسرة مع عمل البغي.
وختمت الباحثة الكتاب بفصل سادس تناولت فيه ثقافة البغاء، وكيف تنتج البغايا التبريرات التي توسغ لهن ممارسة البغاء في مجتمع يصم هذه المهنة بالدنس والانحراف الخلقي، وكيف تتكيف البغي مع الواقع وكيف تدبر المخاطر، وكيف تتفاعل مع واقع العنف، وثقافة الريبة التي تربط البغي بالزبون، وكيف تتدرب البغي على إتقان فن المراوغة والتحايل وشدة الحرص على المال وثقافة انتهاز الفرصة مع الزبون لاستخلاص أكبر قدر من المال، كما توقفت الباحثة على الثقافة الجنسية للبغي وحرصها على تجنب المخاطر وعدم الإصابة بالأمراض التناسلية والجنسية.
وقد خلصت الباحثة في خاتمة بحثها، إلى أنه يصعب فهم ظاهرة البغاء بمعزل عن السياق المجتمعي الاقتصادي والسياسي الذي نشأ منه، ولا بمعزل عن البنيات الهشة التي يتفاعل معها، إذ ترى بهذا الخصوص أن مهنة البغاء مرتبطة بشكل ما بالإقصاء الاجتماعي لشريحة من النساء في وضعية هشاشة اقتصادية واجتماعية، تحاول البحث عن مستوى عيش معين لم تتوصل إليه بطرق أخرى، أي إن مهنة البغاء ترتبط في المحصلة باللامساواة الاجتماعية.