بقلم: محمد بوبكري
لقد كنت وما أزال معجبا بالتراث الفلسفي والأدبي الألماني، لكنني تعرضت لصدمة قوية عندما اكتشفت أن ألمانيا قد انقلبت على تراثها الإنساني هذا، وسقطت في نزعة عنصرية مقيتة ضد وطني الذي قام بقطع جميع العلاقات مع سفارة ألمانيا الاتحادية بالرباط ومع جميع المنظمات الألمانية. ولا يعني هذا أن المغرب قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا، لأنه لم يسحب سفيره من ألمانيا، كمان أن ألمانيا لن تسحب سفيرها من الرباط. لكن لماذا حدث هذا؟ وما هي الأسباب الكامنة وراء اتخاذ المغرب لهذا القرار؟
يبدو لي أن الأمور لا تزال غير واضحة، لأن المغرب لم يفصح لحد الآن عن الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ هذا القرار، كما أن ألمانيا لم تقم بأي تصريح حول قرار المغرب، أو أي تعقيب عليه، ما يعني أن البلدين لم يصلا بعد إلى درجة القطيعة النهائية بينهما. لكن ستتضح الأمور مستقبلا.
وبما أنني أرى أن المغرب يتصرف بحكمة ورصانة على مستوى العلاقات الدولية، فإن قراره ليس مجانيا، ما جعلني أرجح أن قراره هذا قد كان ردة فعل على تعرضه لاستفزازات من قبل ألمانيا. ومع أن العلاقات بين المغرب وألمانيا متميزة على الدوام، فإن السلوك الألماني تجاه المغرب يبدو قد أصبح مؤخرا يتميز بنوع من العنصرية التي تحركها المصالح الإستراتيجية الألمانية في أفريقيا. لقد صار المغرب يلعب دورا متميزا في الصراع الليبي، ما ترفضه ألمانيا، لأنها تريد الإشراف وحدها، أو مع حكام الجزائر، على المصالحة الليبية لاعتبارات إستراتيجية محضة خاصة بها، خصوصا أنها تطمع في البترول والغاز الليبيين، كما أنها ترغب في أن تكون لها امتدادات في الشرق الأوسط وأفريقيا تمكنها من التوفر على مجال حيوي هناك، حيث تعتقد أن إشرافها على المصالحة الليبية يضمن فرصة تحقيق ذلك. وهذا ما جعل ألمانيا ترى في المغرب منافسا لها في هذه القارة. وإذا كان مؤتمر المصالحة الليبية الذي انعقد بمدينة “الصخيرات” في المغرب قد أسفر عن نتائج إيجابية جدا أصبحت مرجعا بالنسبة لمجلس الأمن الدولي، فقد لجأت ألمانيا إلى عقد لقاء لـ”المصالحة الليبية” بمدينة “برلين”، وأقصت المغرب من المشاركة فيه، ما كشف آنذاك ما تكنه ألمانيا من حقد على المغرب، لأنها ترى فيه منافسا لها في أفريقيا التي هو ابنها انفتح عليها بدافع التعاون مع بلدانها، لا بدافع نهب خيراتها، كما تسعى إلى فعله ألمانيا وحلفاؤها.
لقد كرس المغرب وقتا طويلا لكسب ثقة إخوانه الأفارقة، فأصبح يحتل موقعا متميزا في القارة الأفريقية، وهو ما لم تتقبله ألمانيا، فكشرت عن أنيابها للاعتداء على المصالح العليا المغربية. وما يرفض حكام ألمانيا تقبله هو أن المغرب قد تطور وتقدم، ولم يعد مغرب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث أصبح بحكمته وبعد نظره قادرا على فرض ذاته. صحيح أن دولة ألمانيا تمتلك اقتصادا قويا وجامعات جيدة يوجد بها طلبة مغاربة ومهاجرون مغاربة… وإذا كانت هذه الدولة تعتقد أن المغرب سيجاريها في قرارتها، فإنه لن يفعل ذلك على حساب مبادئه وقضاياه الوطنية الكبرى. وما أثار حنق ألمانيا هو أن المغرب قد كسب ثقة أفريقيا، وكذلك ثقة الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وهما دولتان تنافسان ألمانيا في التواجد في أفريقيا. لذلك، فإنها غضبت من المغرب، وصارت تعتقد بأنه إذا استكمل وحدته الترابية، فإنه سيصبح قويا، ما سيمكنه من التصرف باستقلال عن الدول الأوروبية، وهذا ما جعل ألمانيا تعادي استكمال المغرب لوحدته الترابية، حيث لما قررت الولايات المتحدة الاعتراف بشرعية سيادة المغرب على صحرائه، قامت الزعيمة الألمانية بمناهضة هذا القرار السيادي الأمريكي، فكاتبت مجلس الأمن معترضة على هذا القرار ومطالبة إياه بعقد دورة استثنائية لمجلس الأمن، لأنها اعتقدت أنه كان ينبغي أن يتم اتخاذ القرار من قبل الأمم المتحدة، ما كشف عداء ألمانيا للوحدة الترابية المغربية.
وتكمن أسباب حقد ألمانيا على المغرب في أن المغرب نجح في أفريقيا، في حين فشلت ألمانيا في التواجد فيها، فسقطت كل رهاناتها، حيث راهنت على دول فاشلة، تعيش في أغلبها أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية، بل إنها توجد اليوم على حافة الانهيار. أما المغرب، فقد راهن على دول ناجحة، فنجح مشروعه في التعاون مع البلدان الأفريقية. هكذا، ونتيجة فشل المشروع الألماني في أفريقيا، حيث تحطم حلمها بأن يكون مستقبلها في هذه القارة، فقد صارت تحقد على المغرب، علما أن فكر الأنوار الألمان ضد الحقد والكراهية والعنصرية…
لذلك يبدو لي أن ما يجب أن يعيه المغاربة هو أن المغرب قد بات مستهدفا، لأن بعض القوى تعتقد أنه إذا استطاع أن يرسخ وحدته الترابية بشكل نهائي، فإنه سيصير أقوى مما هو عليه اليوم، حيث سيكون مؤهلا لتهديد حلمها بنهب خيراته وخيرات أفريقيا والشرق الأوسط. فمن الأكيد أن الدول الأوروبية تعرف المغرب وإمكاناته، بل إنها تملك ملفات استخبارية دقيقة حول ذلك، ما جعلها متخوفة على مصالحها منه، وخصوصا إسبانيا التي حزنت واكفهر وجهها وكشرت عن أنيابها، بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على صحرائه، حيث دفعت حزبا قزما إلى مناهضة ذلك. وبعد ذلك قامت بتصحيح ذلك بتصريح رئيس حكومتها. وقد كان مبرمجا أن يزور ملك إسبانيا المملكة المغربية، لكن تلك الزيارة لم تتم نتيجة اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على صحرائه، الأمر الذي يؤكد شدة امتعاض إسبانيا جراء هذا القرار، خصوصا أن لها مصالح كثيرة مع المغرب، ومشاكل عالقة بينهما.
كما أن ألمانيا تقوم بأعمال تجسسية حول المغرب، حيث تستغل التعاون مع بعض القطاعات وتنظيمات المجتمع المدني بالمغرب لإعداد ملفات استخبارية حول المغرب بمختلف قطاعاته ومكوناته ومناطقه. لذلك، فإن وطنية المغرب، تقتضي الحرص على سيادة الوطن، ووضع حد لعلاقات كل من المجتمع المغربي والقطاعات الرسمية مع مختلف التنظيمات والجهات الألمانية التي قد تشتغل لصالح المخابرات الألمانية، لأن نتائج عملها الاستخباري قد توظف ضد مصالح وطننا؛ فالمخابرات الألمانية تستغل بحرفية عالية، ولأجهزتها الاستخبارية تجربة تفوق القرنين من الممارسة في مجال الاستخبارات…
ويؤكد بعض المتتبعين والخبراء في علاقة المغرب مع أوروبا أنه من المحتمل جدا أن تكون إسبانيا هي التي دفعت ألمانيا إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع المغرب، خصوصا أن صدق المغرب قد مكنه من كسب ثقة الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية، لأنهما قوتين منافستين للدول الأوروبية في أفريقيا. فأمريكا قوية في كل المجالات، والصين ستستثمر قريبا عشرات ملايير الدولارات في هذه القارة. أضف إلى ذلك، أنها مختصة في إنتاج أشياء كثيرة، بما فيها الدواجن بمختلف أنواعها والبيض ومواد أخرى كثيرة.
ورغم أن فرنسا لا تعلن أي عداء صريح للمغرب في المحافل الدولية، لأنها تعي جيدا أن القوى الاستعمارية قد مزقت المغرب، وتمتلك ملفات ووثائق تؤكد ذلك الظلم الشنيع، فإن بعض الخبراء لا يستبعدون أن تكون فرنسا منخرطة بشكل غير مباشر مع ألمانيا وإسبانيا في اعتراضهما على استكمال المغرب لوحدته الترابية، حيث يبدو أن حكام هذه الدول جميعهم لا يرغبون في أن يتقوى المغرب وينمو ويتطور مستقبلا، ما يؤهله للاستقلال بقراره، ما يفيد أن المغرب مستهدف، ويستوجب على المغاربة المزيد من الحذر والتضامن…