بقلم: سليمان الريسوني*
الأغنیة تعدت 10 ملایین مشاهدة في وقت وجیز. وهذا رقم یتجاوز بكثیر عدد المصوتین في آخر انتخابات عرفها المغرب، والذي لم یتجاوز 6 ملایین وبضعة آلاف.
من المؤكد أنه لیس كل من استمع إلى «عاش الشعب» متفق مع ما جاء فیها من مضامین، كما هو مؤكد، كذلك، أن الذین أدلوا بأصواتهم في اقتراع 7 أكتوبر 2016 لیسوا كلهم متفقین مع العملیة السیاسیة في شكلها الحالي، حیث إن حوالي ملیون منهم ذهبوا إلى صنادیق الاقتراع فقط لیحتجوا على العملیة من داخلها ویصوتوا ببطاقة ملغاة.
إن هذه المقارنة بین نسبة مشاهدة أغنیة «عاش الشعب» وبین عدد المصوتین في الانتخابات الأخیرة، مهمة، لاعتبارین اثنین. أولا، لأننا أمام أغنیة سیاسیة لم یعرف المغرب مثیلا لها من حیث الوضوح والمباشرة والقوة في الخطاب وسرعة الانتشار، وتنوع التفاعل معها من وسوم ونقاشات. ثانیا، لأن الأغنیة توجهت إلى ملك البلاد ومحیطه، وهذا یؤكد، من جملة ما یؤكده، أن الجیل الجدید من الاحتجاجات والانتقادات لم یعد یتوجه إلى الحكومة، لأنها في نظره لا تحكم أي شيء، بل إلى الملك.
لقد عدنا، في مستوى من مستویات الأغنیة، إلى زمن انتفاضات الستینیات والثمانینیات، حیث كانت شعارات المحتجین تخاطب الملك مباشرة، وبكثیر من قلة الاحترام، لأن الأزمة كانت وصلت إلى العظم، ولأن المنتفضین كانوا یعرفون أو یحدسون أن سیاسة التقویم الهیكلي -مثلا- وما ترتب علیها من واقع اجتماعي سیئ، لا یمكن أن یقرر بشأنها الوزیر الأول، بل الملك.
وكلنا یذكر، أو یُذكره الیوتیوب بذلك، خطاب الحسن الثاني الذي أعقب انتفاضة 1984 ،حیث لم یتردد الملك في قراءة الشعارات التي استهدفته بنفسه، وهو یردد: «واش لمغاربة رجعو خفاف؟ رجعتو دراري.. وصلنا لهاذ الحد«.
إن أغنیة «عاش الشعب»، شأنها شأن خطاب «الدكاكین السیاسیة» و«دیمقراطیة الشارع» في الحسیمة وبغداد وبیروت والكویت، وشأن التصویت على قیس سعیّد العقابي للأحزاب والنخب التقلیدیة في تونس… كل هذه الشعارات وتلك الاختیارات، على تنوعها واختلافها، مؤشرات تصفعنا جمیعا، مثقفین مستقلین ومعارضین تقلیدیین وسلطة حكم، وتنبهنا إلى أن السیل الآتي سیكون جارفا لكل ما راكمناه من خطاب وممارسة اجتماعیة وسیاسیة ومنظومة أخلاقیة. فما قیمة استیائنا، الیوم، من الطریقة العنصریة التي تناولت بها الأغنیة مستشارا ملكیا؟ وما قیمة امتعاضنا من أن یسمي مغني راب نفسه بـ«الحاقد» بدل الغاضب أو الثوري أو عاشق الوطن، كما كان یحدث في الزمن الذي كانت فیه أحزاب المعارضة تشكل سلطة ثقافیة موازیة لسلطة الدولة، فتؤطر الغضب الشعبي وتهذبه وتوجهه؟ الآن، لا یحق لمن أصبح نموذجه هو «البیغ الخاسر» أن ینتقد «تخسار الهدرة» عند ثلاثي «عاش الشعب»، وقس على ذلك ما نتج عن تفریط الدولة والأحزاب والنقابات والجمعیات في دور الاهتمام بالبشر، ناهیك عن سیاسة الإفساد والإبعاد عن السیاسة والثقافة الهادفة، والتركیز فقط على الریاضة، فهذه سیاسة كانت مقصودة، وأغنیة «عاش الشعب» من نتائجها، ومن یزرع الریح یحصد العاصفة.
إن متابعة ثلاثي «عاش الشعب» بتهم من خارج ما جاء في الأغنیة من مضامین، لن یأتي سوى بنتائج عكسیة، خصوصا في مرحلة كهذه، حیث لا أحد، من المحیط إلى الخلیج، یتوقع أین ستشتعل غدا وكیف ستشتعل. نقول هذا لعلمنا أن السلطة في المغرب، وبعدما وجدت نفسها مقیدة بقرار سابق للملك بعدم متابعة من ینتقده أو حتى من یسيء إلیه شخصیا، أصبحت بارعة في العثور على تهم عجیبة لأناس انتقدوا المؤسسة الملكیة أو أساؤوا إلیها.
لقد لاحظنا كیف اعتُقل حمید المهدوي بعد انتقاد علاقة أخنوش بالملك بتهمة الدبابة، وتوفیق بوعشرین بعد افتتاحیة «الحكم لیس نزهة على الشاطئ» بالاتجار في البشر، ومصورو وقاحة البشیر السكیرج عن العائلة الملكیة بالسرقة، وسیدة كاریان الدار البیضاء، التي حملت الملك مسؤولیة هدم منزلها، بالاتجار في المخدرات، كما ُحلت جمعیة جذور بجریرة شرب الخمر وتنظیم نشاط غیر مسموح لها به.
هذا فضلا عن إطلاق آلاف الروبوهات الإلكترونیة وعشرات المواقع والجرائد، یحركها محسوبون على السلطة، للتعریض والتشهیر بالمعارضین والصحافیین المستقلین الذین یحملون ملاحظات أو انتقادات حول نظام الحكم في المغرب.
إلى حدود الآن، تتعامل السلطة، والوسائط الموازیة لها، بقلیل من الحكمة وكثیر من الارتباك مع ثلاثي «عاش الشعب»، فقد اعتقلت واحدا منهم بتهمة لا علاقة لها بمضمون الأغنیة، وبحثت عن الاثنین الآخرین في ما یشبه التخویف، دون إصدار مذكرة اعتقال، أو حین دعت بعض جرائدها إلى العفو عن ثلاثي الأغنیة، ثم خروج سلفي البوز، محمد الفیزازي، لسبهم ونعتهم بالسكیرین والعربیدین والحشاشین، وتهدیدهم بالمحاكم، بدل الانتقال إلیهم بسیارته الفاخرة لمحاورتهم بالتي هي أحسن، كما یلیق بأي داعیة، محترم، إلى الله.
نقطة أخیرة یجب التنبیه إلیها، وهي أن السلطة وأبواقها لدیهم سوابق في أن یصنعوا من أناس متواضعي الإدراك أو الموهبة، فنانین مشهورین ومعارضین رادیكالیین ولاجئین سیاسیین، من حیث كانوا یریدون إخراسهم. ألم یفعلوا هذا مع معاذ الحاقد وغیره؟.
*سليمان الريسوني: رئيس تحرير يومية أخبار اليوم