آمال سورية، ألم فلسطيني: نحو نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط

31 مايو 2025
آمال سورية، ألم فلسطيني: نحو نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط

الصحافة _ بقلم هشام العلوي 

ترجمة جريدة الصحافة الإلكترونية

منذ نهاية الحرب الباردة، قدّمت إيران نفسها كزعيمة لتحالف مناهض للإمبريالية في الشرق الأدنى. غير أن تراجع موقع طهران يعيد رسم خريطة الجغرافيا السياسية في المنطقة. كما أن سقوط الدكتاتورية في دمشق، بعد خمسة عشر عاماً من «الربيع العربي»، يعيد إحياء آمال الشعوب التي لم تتحقق طموحاتها في العدالة الاجتماعية، والتي أثار سحق غزة غضبها.

لقد شهد التوازن الجيوسياسي في الشرق الأدنى تحولاً عميقاً منذ الفترة ما بعد الاستعمار. ففي منتصف القرن العشرين، كانت الحروب العربية الإسرائيلية تدور بين معسكرين محددين بوضوح: التحالف القومي العربي من جهة، والصهاينة المدعومين من الغرب من جهة أخرى. إلا أن الوضع بدأ يتعقّد مع نهاية السبعينيات. فمن جهة، اتخذت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي نشأت عن الثورة، مشروعاً يتمثل في إسقاط الأنظمة السنّية “الرجعية”. ومن جهة أخرى، بدأ الكتلة العربية تتصدّع، وبلغ هذا التصدع ذروته مع اتفاقات كامب ديفيد التي أفضت إلى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية سنة 1979.

مع نهاية الحرب الباردة، حدث زلزالان استراتيجيان جديدان: الأول هو حرب الخليج في 1990-1991، التي دشّنت عهد الأحادية القطبية الأمريكية؛ والثاني هو توقيع اتفاقات أوسلو سنة 1993، والتي وُعد فيها الفلسطينيون بدولة مستقبلية. ومنذ ذلك الحين، لم تعد هناك خطوط تصدع إقليمية واضحة، بل بدأ يُنظر إلى الصراع العربي-الإسرائيلي باعتباره نزاعًا حول السيادة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

استغلت إيران أحداث 11 سبتمبر 2001، والحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق، لبناء جبهة شيعية ثورية أكثر اتساعاً، نشطة في جميع أنحاء المنطقة. ضمت هذه الجبهة حزب الله اللبناني، ونظام بشار الأسد في سوريا، والميليشيات الشيعية العراقية، والحوثيين في اليمن، وعلى نحو أقل، حركة حماس الفلسطينية. وقد منحت “ثورات الربيع العربي” بين عامي 2011 و2012، لهذه الجبهة فرصة لتصوّر نفسها كطليعة للمقاومة ضد الصهيونية والإمبريالية. في مواجهة هذه الجبهة، ظهرت الثورة المضادة السنّية، المدعومة من أنظمة موالية للغرب كانت حتى ذلك الحين مفككة. وفي كلا المعسكرين، كان الهمّ الأكبر احتواء الشارع لا تحرير فلسطين.

على هذه الخلفية، جاءت اثنتان من أبرز الانفجارات الجيوسياسية الحديثة، شبه المتزامنة: من جهة، التطهير العرقي في قطاع غزة مصحوباً بهجمات قاتلة في لبنان، التي نفذتها إسرائيل عقب هجمات حماس في 7 أكتوبر 2023؛ ومن جهة أخرى، الإطاحة في ديسمبر 2024 بالدكتاتور السوري بشار الأسد، حليف إيران، على يد قوات غالبيتها من المتمردين الإسلاميين، فاتحةً بذلك فترة انتقالية قد تؤول إلى مسار ديمقراطي.

أدت هذه الأحداث إلى هزات إقليمية كبيرة. فمع حرب إسرائيل ضد حماس، وتصفية قيادات حزب الله، وتزايد الضغط على الحوثيين، وتآكل القدرات العسكرية الإيرانية، بدأ ما يسمى بـ”محور المقاومة” يتفتت. وفي الوقت نفسه، بدأت القوى الخارجية تنسحب من الساحة: رغم ضغوط إسرائيل، لم تُبدِ القوى الغربية أي حماسة لضرب إيران؛ أما الروس والإيرانيون، فقد راقبوا سقوط نظام الأسد كمجرد متفرجين.

ومع تلاشي الخطوط الأمامية القديمة، لم تظهر قوة مهيمنة جديدة تملأ فراغ السلطة. على العكس، أصبحت الصراعات الجيوسياسية أكثر ضبابية وتشابكاً، وشكلت ما يشبه “كوكبة من البؤر الساخنة”.

من بين هذه البؤر، نلحظ عودة الحركات الشعبية المطالبة بالحرية والديمقراطية. فقد أولت ثورات “الربيع العربي” الأصلية وتوابعها في 2018-2019 اهتماماً قليلاً بالقضية الفلسطينية أو غيرها من النزاعات الإقليمية، التي هي، في معظمها، من صنع الأنظمة الاستبدادية نفسها. وكان الشعار الأبرز لدى تلك الشعوب الخاضعة لأنظمة سلطوية هو “الحق في الكرامة”.

ولا تزال هذه الروح الثورية حيّة، في العالم العربي وفي تركيا على السواء. فهي تُعبّر عن نفسها في موجات بشرية بلا زعامة واضحة، تستخدم التكنولوجيا الجديدة لتبادل الأفكار ومواجهة القمع. وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة واستشراء الفساد، تظل المطالب الاقتصادية هي الغالبة. غير أن هذه الحركات الشعبية تفتقر إلى الجاهزية للمرحلة التالية. فالنشطاء لا يزالون في طور اكتساب المهارات التنظيمية، ولا يملكون برنامجاً بعد الثورة، كما أنهم غير مؤهلين للتعامل مع الاستحقاقات الانتخابية.

ولهذا السبب، ومنذ انطلاق “الربيع العربي”، لم يكن من أطاحوا بالحكام هم من يحكمون بعدهم، بل بقي هؤلاء الثوار الأوائل على هامش الحياة السياسية، في حين تولّت الجماعات الأكثر قدرة على حشد الجماهير السلطة – وغالباً ما تكون هذه الجماعات من الإسلاميين، كما تُظهر الحالة السورية.

بدلاً من الاستجابة للمطالب الشعبية، استمرت الأنظمة العربية في التعويل على القمع، والوصفات النيوليبرالية، والدعم الدولي للبقاء في السلطة. ففي مصر مثلاً، أصبحت النخب الحاكمة منفصلة تماماً عن الشعب. وتشهد مشاريع كبرى، مثل إنشاء عواصم إدارية جديدة، على هذا الانفصال الرمزي. وفي المقابل، تظل المجتمعات المدنية، رغم صبرها، غير ساكنة، تترقب اللحظة المناسبة للعودة إلى الساحة.

وسوف تطرح الموجة القادمة من الانتفاضات سؤالاً معقداً: كيف يمكن تحقيق الديمقراطية من دون اللجوء إلى العنف؟ فالمراحل الانتقالية المطولة، كحال السودان، تؤدي إلى مزيد من النزاعات أكثر مما تفضي إلى إنجازات ملموسة. بينما الانتصارات السريعة التي تُفضي إلى حكومات جديدة، كثيراً ما تُجهَض عبر ارتداد إلى الممارسات الاستبدادية، كما حدث في مصر وتونس.

وتُعدّ التجربة السورية الحالية، الفريدة بسياقها الجيوسياسي وبصلابة المعارضة فيها، بمثابة شعلة ثورية متجددة، تثير إعجاب العالم العربي. وهي تثبت أنه، حتى بعد سنوات طويلة من الجمود، وفي مواجهة أكثر الحكومات قسوة، يمكن للمعارضة أن تنتصر إذا ما اتسمت بالإصرار وامتلكت استراتيجية مدروسة. وتُقدّم هذه التجربة، للمرة الأولى، وجهاً إنسانياً لـ”الربيع العربي”، ربما لأنها تعتمد على الكفاح المسلح، وهو ما يترك أثراً أعمق من العصيان المدني السلمي.

سقوط نظام عائلة الأسد، بعد أكثر من نصف قرن من الحكم، أثار ارتياحًا عميقًا لدى ملايين السوريين المشتتين في الشتات، المتطلعين إلى قيام دولة أكثر تعددية تعيد تعريف مفاهيم المواطنة، والحقوق، والحريات.

نحو نظام إقليمي جديد

تُعدّ الحرب على غزة نقطة انعطاف في هذا التحول التاريخي. فعندما امتد الهجوم الإسرائيلي إلى لبنان واليمن، تعرضت جميع القوى المتحالفة مع إيران لهجمات شديدة. فقد خسر حزب الله قادته وجزءًا كبيرًا من ترسانته. أما الحوثيون، فرغم أنهم لم يُضربوا بالقدر ذاته، فقد تلقوا لمحة أولى عن الكارثة التي قد يحدثها نزاع مسلح مع إسرائيل، والذي من المؤكد أنه سيجلب تدخلًا أمريكيًا. أما بشار الأسد، فقد ارتكب خطأ تجاهل تحذيرات داعميه الروس والإيرانيين بشأن تآكل قواته المسلحة.

وتعزى الانتصارات العسكرية

الإسرائيلية على وكلاء إيران إلى مجموعة من التحولات الاستراتيجية. ففي حرب لبنان عام 2006، التي تميزت بمقاومة حزب الله، بلغ ما يسمى بـ “الجبهة الثورية الشيعية” ذروة قوتها. لكن منذ ذلك الحين، قررت إسرائيل، مدعومة من حلفائها الغربيين، اتباع “تكتيك التطويق”. وقد نجحت أجهزتها الاستخباراتية في اختراق صفوف حزب الله عندما أرسل آلاف المقاتلين إلى سوريا دعماً للأسد. وفي عام 2020، شكل اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني، مهندس التمدد الإيراني، فراغًا كبيرًا داخل التحالف الشيعي. ولم يكن حسن نصر الله، زعيم حزب الله، قادراً على خلافته حتى قبل أن يُغتال هو الآخر. واليوم، يعيد التغيير في النظام السوري توزيع الأوراق.

تحديات المرحلة الانتقالية في سوريا

يواجه النظام الجديد في سوريا تحديات كبرى. فقد عُيّن أحمد الشرع، المعروف باسمه الحركي “أبو محمد الجولاني”، رئيساً مؤقتاً في يناير 2025. وهو يواجه اقتصادًا منهارًا لم يعد بإمكانه الاعتماد على أرباح الكبتاغون، المخدر الصناعي الذي كانت سوريا تنتجه على نطاق واسع. كما يجب عليه ضمان الأمن الداخلي، الذي تتقاسمه حاليًا ميليشيات وفصائل متعددة، ومعالجة قضية المقاتلين الأجانب الذين لا يزالون بأعداد كبيرة على الأراضي السورية.

وفي توازن دقيق، يحاول الجولاني تحييد رموز النظام السابق، وفي الوقت نفسه حماية الأقلية العلوية، التي تنتمي إليها عائلة الأسد، من الانتقام. ولكن دون جدوى: إذ إن المناطق ذات الغالبية العلوية لا تزال خارج سيطرة الدولة، وقد ارتكبت فيها ميليشيات عديدة انتهاكات دموية دفعت بعشرات الآلاف من العلويين إلى الفرار نحو لبنان.

أما التحدي الأكثر إلحاحًا، فهو التعددية. فبحكم إدارته لمحافظة إدلب لمدة ثماني سنوات، يعرف الجولاني أن احترام التنوع الديني والإثني للمجتمع السوري أمر حاسم، وقد تعهد بتحقيق ذلك. لكنه، في الوقت الراهن، يتبنى موقفًا براغماتيًا. فهو يفضل جمهورية موحدة بدلاً من نظام فدرالي، ولا ينوي تقليص تركيز السلطات في يد الرئاسة.

مأزق إيران، واختبار الإسلاميين

فقدت الجمهورية الإسلامية الإيرانية جزءًا كبيرًا من نفوذها، فيما جعلت العمليات المتكررة للجيش والمخابرات الإسرائيليين على أراضيها، أكثر عرضة من أي وقت مضى لهجمات خارجية. وهي تواجه الآن معضلة حقيقية: إما أن تواصل موقفها المتصلب، وتعيد بناء تحالفها الشيعي وتعزز قدراتها العسكرية استعدادًا لمواجهة جديدة مع إسرائيل والغرب؛ أو أن تختار مسار الانفراج، بالاستناد إلى تقاربها الأخير مع السعودية. وقد فهم القادة الإيرانيون أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رغم خطابه المتشدد، يتبنى سياسة براغماتية محضة في الشرق الأوسط: فإذا أمكن التوصل إلى صفقة، فإنه لا يرى مانعاً في تجاوز الماضي.

وهنا يكمن خلافه مع بنيامين نتنياهو، الذي رغم الدعم الأمريكي الثابت لإسرائيل، لا يملك بايدن أو ترامب نفس الدافع لتعزيز مغامرات تل أبيب العسكرية. فالصهيونية، التي تتغذى على خطاب لاهوتي وتوسعي، تجد اليوم معارضة متزايدة من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، بسبب التناقض بين “دولة الملاذ” المفترضة وبين دولة تسعى بشكل دائم للحرب.

الفلسطينيون بين الاحتلال والانقسام الداخلي

أما الفلسطينيون، فقد تغيرت آفاقهم كلياً. فلم تعد المقاومة المسلحة خيارًا واقعيًا، وراهنهم الآن هو على التضامن الدولي. فالقضية الفلسطينية لم تعد “قضية عربية”، بل أصبحت تُنظر إليها من زاوية حقوق الإنسان الكونية. فالفلسطينيون لا يستحقون دولة لأنهم “أقلية تستحق التعاطف”، بل لأنهم شعب يتعرض، على يد قوة محتلة، للترحيل القسري، والفصل العنصري، وربما الإبادة. ولهذا، قد تُشكّل “الانتصارات التكتيكية” لإسرائيل في غزة هزيمة أخلاقية بعيدة المدى.

لكن، للأسف، يُشكّل الفلسطينيون أنفسهم عقبة أمام تحررهم. فقد أُنشئت السلطة الفلسطينية في إطار اتفاق أوسلو ككيان مؤقت للحكم الذاتي، لكنها تحوّلت إلى مؤسسة فاسدة متواطئة مع الاحتلال. بدلاً من الدفاع عن شعبها، زادت من قمع المعارضة، خاصة منذ أكتوبر 2023. وواصل حسين الشيخ، نائب الرئيس المعين حديثًا، نفس نهج التعاون مع الاحتلال.

أما حماس، ورغم ما تكبّدته من خسائر، فلا تزال تمثل طليعة المقاومة المسلحة، ولذلك لا يمكن استبعادها من أي تسوية مستقبلية.

الهوية الإسلامية والحكم المدني

إن قبول التعددية شيء، لكن ضمان تمثيل عادل للجميع ضمن المؤسسات شيء آخر. فهل سيتم التعامل مع السوريين على قدم المساواة، سواء كانوا سُنة أو علويين أو مسيحيين أو دروزًا أو أكرادًا؟ ويستوجب وضع الأكراد اهتمامًا خاصًا. فمنطقة روجافا التي يسيطرون عليها في الشمال الشرقي من البلاد تتمتع بحكم ذاتي فعلي، والحكومة السورية لا يمكنها استعادة السيطرة عليها دون دعم تركي، علماً بأن أنقرة تعتبر تطلعات الأكراد للاستقلال تهديداً وجودياً.

ورغم أن تحالفاً عسكرياً سورياً-تركياً للقضاء على هذا الكيان يبدو مستبعدًا، إلا أن الجولاني قد يقترح اتفاقًا: نزع سلاح الأكراد مقابل منحهم حقوقًا ثقافية وسياسية. والاتفاق الذي توصلت إليه السلطات التركية مع عبد الله أوجلان، والذي أعلن بموجبه في 12 ماي الماضي حل حزب العمال الكردستاني، يبرهن على أن حلاً تفاوضيًا من هذا النوع ممكن.

لكن ماذا عن حرية المعتقد، وخصوصًا الحق في تغيير الدين؟ كثير من السوريين يطالبون بإقامة ديمقراطية علمانية تُعلي من مبدأ المساواة على أي اعتبار ديني أو عرقي. في بلد متعدد الطوائف، قد يكون هذا هو السبيل الوحيد لبناء نظام سياسي مستقر. غير أن هذا الهدف لا يحظى بالإجماع.

وهنا تُطرح مسألة حساسة: ما هو موقع الإسلام في المرحلة الانتقالية السورية؟ صحيح أن الجولاني، وقد خلع عباءة الجهادي ليرتدي زي رجل الدولة، بات يُظهر مرونة سياسية، إلا أن خلفيته لا تزال إسلامية. كما أن حركته، “هيئة تحرير الشام”، وإن كانت قد تخلّت عن هدف إقامة خلافة تطبق الشريعة، فإنها لم تغيّر فعليًا من عقيدتها منذ تسلمها زمام الحكم.

ويجد الإسلاميون السوريون أنفسهم أمام مأزق مألوف: السلاح الذي مكّنهم من الوصول إلى السلطة (الدين) يتحول إلى عبء يُقيد ممارستهم لها. فإذا أوفوا بوعودهم الجهادية، فسوف يعزلون أنفسهم عن بقية العالم وعن مجتمعاتهم، خاصة النساء والأقليات. وإذا تخلّوا عن هويتهم الإسلامية لصالح حكم علماني، فإنهم يخاطرون بإعادة إنتاج الاستبداد مثل غيرهم.

وستكون الكيفية التي يعالج بها قادة سوريا الجدد هذا التناقض حاسمة بالنسبة لمستقبل التوازنات السياسية والدينية في الشرق الأوسط. وبما أن الإسلاميين لا يستطيعون الحكم دون باقي الأطياف، فهناك أمل في أن يؤدي التعدد الطائفي إلى الاعتدال.

لامبالاة إقليمية وارتباك استراتيجي

في الوقت الراهن، لا يبدو أن هناك فاعلين خارجيين متحمسين للتدخل في المرحلة الانتقالية السورية. فقد انسحبت روسيا وإيران من المشهد، وإن كانت الأخيرة ترغب في تقويضه، فإنها لا تملك الوسائل لذلك. أما الولايات المتحدة وأوروبا، فتعتمدان نهج “الترقب”، تماماً كتركيا التي تسعى إلى تحييد التهديد الكردي دون الانجرار إلى تصعيد عسكري.

وحدها إسرائيل تتصرف بنشاط، ساعية إلى إفشال أية آمال في ديمقراطية سورية. إذ تتبع الاستراتيجية نفسها التي اعتمدتها الولايات المتحدة قبيل غزو العراق عام 2003: تقديم سوريا كدولة مفككة غير قابلة للثقة.

أما الجيران العرب، فغارقون في أزماتهم. فمصر فقدت مكانتها الدولية منذ تولي عبد الفتاح السيسي السلطة. وللمرة الأولى، تغيب عن أي دور فاعل في الوساطات أو في تقديم المساعدات في حرب غزة، رغم قربها الجغرافي. أما داخلياً، فقد تخلّت الدولة عن مواطنيها، بينما تُعزز دور الجيش في الاقتصاد، وتستخدم ميليشيات قبلية لضبط السكان.

وإذ تدرك السعودية والإمارات أن جهود الثورة المضادة لم تُسكت أصوات الشعوب، بدأت كلتاهما بمراجعة استراتيجياتهما. وبعد أن سعيتا إلى إعادة تأهيل نظام الأسد، تساهمان الآن في تخفيف العقوبات عليه. ويبدو أن ولي العهد محمد بن سلمان قد فهم أن استقرار مملكته مرهون بدوره الإقليمي، بقدر ما هو مرتبط بإصلاحاته الاقتصادية.

في المقابل، فشلت الإمارات والبحرين تمامًا في رهانهما على التحالف مع إسرائيل. فالاتفاقات الإبراهيمية لعام 2020، وما تلاها من مفاوضات لتطبيع العلاقات مع السعودية، لم تحقق الاستقرار المنشود. بل باتت إسرائيل، بسياساتها العسكرية التوسعية، شريكاً دبلوماسيًا خطيراً، يهدد بإعادة رسم خريطة العالم العربي. وربما تُطلب من السعودية والإمارات، في نهاية المطاف، المساعدة في إعادة إعمار غزة لصالح إسرائيل، وهو ما لم يكن ضمن توقعاتهما عند توقيع اتفاقات التطبيع.

واشنطن وتل أبيب: تحالف هش

إنه من غير الممكن، في حال تصاعد التوتر بين تل أبيب وطهران، أن تبقى واشنطن على الحياد. فترامب لديه أيضًا مصالح اقتصادية عائلية يجب مراعاتها. أما داخليًا، فإن الوضع في إيران أكثر تعقيدًا. فالنظام الذي ارتكز على ثلاث دعائم منذ الثورة – القومية، والهوية الشيعية، والنفوذ العابر للحدود – يشهد تراجعًا في العنصر الديني. وقد تجلت هذه الدينامية في التظاهرات الواسعة من أجل حقوق النساء والديمقراطية عقب مقتل مهسا أميني في خريف 2022.

لبنان: المستفيد المحتمل

من بين كل الدول العربية، قد يكون لبنان هو المستفيد الأكبر من سقوط نظام الأسد وتراجع حزب الله. فالحزب، الذي طالما حارب الدولة اللبنانية وسعى للهيمنة عليها، يجد نفسه اليوم مضطرًا للاعتماد عليها لحماية أفراده ومصالحه. وقد أدركت قياداته أن الدعم الإيراني لم يعد مضمونا.

لبنان يقف عند مفترق طرق. فقد فُقد القادة الكاريزميون لجميع الطوائف الكبرى: الدروز خسروا كمال جنبلاط، الموارنة خسروا بشير الجميل، السنة خسروا رفيق الحريري، والشيعة خسروا حسن نصر الله. والشعب يطالب اليوم بنظام مدني يُنهي الفساد ويقوّض سلطة الأوليغارشيات الطائفية.

وفي الواقع، المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحظى بشيء من الثقة هي الجيش اللبناني. وقد تدفع هذه المعطيات الطوائف إلى إبرام تسويات غير مسبوقة فيما بينها.

في الختام: لا “يوم بعد” لغزة

في هذه الأثناء، تستمر الحرب على غزة، حرب وحشيتها مزيج بين حسابات الجنرالات الإسرائيليين والردّ العنيف لهجمات 7 أكتوبر 2023. فالهجمات العشوائية التي نفذها حماس ضد المدنيين والعسكريين على السواء، خلّفت صدمة عميقة في إسرائيل، وأججت روح الانتقام لدى حكومة منشغلة أصلاً بإحكام قبضتها على المجتمع، خاصة من خلال تقويض القضاء.

لكن هذا الاندفاع نحو الانتقام يغذّي الخطاب الصهيوني المهووس بالخلاص. واليوم، لم يعد الصهيونية سوى مشروع توسعي يتذرع بالتبريرات اللاهوتية، يهدف إلى توسيع “الوطن القومي اليهودي”، ولو عبر ضم أراضي دول أخرى.

وفي خطوة مأساوية، تقوم السلطة الفلسطينية بتسليم مزيد من الأراضي الخصبة للإسرائيليين، مما يضطر السكان الفلسطينيين في الريف إلى النزوح نحو المدن، التي تغدو بؤراً للاحتجاج السياسي، وإن ظل سلميًا. هذا الوضع يجعل الضفة الغربية أكثر عرضة للتلاعبات الجيوسياسية الخارجية.

فإذا أقدم ترامب على تنفيذ نسخة جديدة من “صفقة القرن” تتيح لإسرائيل ضم كامل الضفة الغربية، ووافقت السلطة الفلسطينية، فإن أي مقاومة فلسطينية ستُواجه خيارات شبه معدومة.

وقد وُضعت دول عربية أخرى أمام اختيارات مستحيلة من قِبل الإدارة الأمريكية الجديدة، التي جعلت من هذه الممارسة أسلوبًا دائمًا. فبعد تنصيبه، جمّد ترامب كل المساعدات الخارجية باستثناء تلك الموجهة إلى مصر وإسرائيل، وبدأ بممارسة ضغوط على مصر والأردن لاستقبال الفلسطينيين المطرودين من غزة.

غير أن الأردن سيرفض، لأنه يعلم أن نظامه على المحك. أما مصر، فقد تقبل، مقابل ضمانات اقتصادية في عملية إعادة الإعمار.

وعلى غير المتوقع، أبدت الأنظمة العربية تحفظاً كبيراً تجاه ترامب. فصدمهم مشروعه بشأن غزة، ودفعتهم المفاجأة إلى تنسيق موقفهم – بشكل نادر – بهدف منع تنفيذه، خشية أن يؤدي إلى انفجار شعبي في بلدانهم. وهكذا، تجد الدبلوماسية العربية نفسها رهينة الترقب إلى أجل غير مسمى. إنها سلبية مُهينة، وقد يدفع ثمنها أولئك الذين يقبلون بها، غالبًا بدافع الجشع. أما بالنسبة لتل أبيب، فلا يوجد “يوم بعد” لحرب غزة.

نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص المحتوى والإعلانات، وذلك لتوفير ميزات الشبكات الاجتماعية وتحليل الزيارات الواردة إلينا. إضافةً إلى ذلك، فنحن نشارك المعلومات حول استخدامك لموقعنا مع شركائنا من الشبكات الاجتماعية وشركاء الإعلانات وتحليل البيانات الذين يمكنهم إضافة هذه المعلومات إلى معلومات أخرى تقدمها لهم أو معلومات أخرى يحصلون عليها من استخدامك لخدماتهم.

اطّلع على التفاصيل اقرأ أكثر

موافق